وأما البحث الثاني : وهو ما يتعلق بالنبوّة، فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة، وذلك لأنه قال :﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ﴾ (آل عمران : ٣) وهذا يجري مجرى الدعوى، ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى، فقال : وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدىً للناس، فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلهيان، لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقاً لا محالة، ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله، فكذلك حصل في كون القرآن نازلاً من عند الله وإذا كان الطريق مشتركاً، فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة، أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين، وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد، ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، وما هو العمدة في إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَـاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌا وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ (آل عمران : ٤) فقد ظهر أنه لا يمكن /أن يكون كلام أقرب إلى الضبط، وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام، والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه، وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر.
ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ.
أما قوله ﴿اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ﴾ فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبيّن الله تعالى أن أحداً لا يستحق العبادة سواه.
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال :﴿الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾ فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم، من الليل والنهار، والحر والبرد، والرياح والأمطار، والنعم التي لا يقدر عليها سواه، ولا يحصيها غيره، كما قال تعالى :﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ ﴾ (إبراهيم : ٣٤) وقرأ عمر رضي الله عنه ﴿الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾ قال قتادة، الحي الذي لا يموت، والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم، وآجالهم، وأرزاقهم، وعن سعيد بن جبير : الحي قبل كل حي، والقيوم الذي لا ند له، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا : الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلهية، ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حياً قيوماً ودلّت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حياً قيوماً، وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت. علمنا قطعاً أن عيسى ما كان إلهاً، ولا ولداً للإله تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٢٦
١٣٠
فاعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه، وإنما خص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال، لأن التنزيل للتكثير، والله تعالى نزل القرآن نجما نجما، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة، فلهذا خصهما بالإنزال، ولقائل أن يقول : هذا يشكل بقوله تعالى :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ﴾ (الكهف : ١) وبقوله ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ (الإسراء : ١٠٥).
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزّل بوصفين :
الوصف الأول : قوله ﴿بِالْحَقِّ﴾ قال أبو مسلم : إنه يحتمل وجوهاً أحدها : أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها : أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال، ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها : أنه /حق بمعنى أنه قول فصل، وليس بالهزل ورابعها : قال الأصم : المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية، وشكر النعمة، وإظهار الخضوع، وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها : أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة، كما قال :﴿أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَـابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا ﴾ وقال :﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا﴾ (النساء : ٨٢).


الصفحة التالية
Icon