والنوع الثاني : أن النصارى قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته، فهذا يدل على أنه ابن الله، فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي، واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب رده إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله ﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ ﴾ (آل عمران : ٧) فظهر بما ذكرنا أن قوله ﴿الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾ إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإله ولا ابن له، وأما قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة، وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابناً لله، وأما قوله ﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ (آل عمران : ٧) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته، ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب، وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب، ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث، فقال :﴿لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب، وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور لا يكفي في كونه إلهاً فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة /وهو العزيز، وكامل العلم وهو الحكيم، وبقي في الآية أبحاث لطيفة، أما قوله ﴿لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٤
فإن قيل : ما الفائدة في قوله ﴿فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ مع أنه لو أطلق كان أبلغ.
قلنا : الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى، وذلك لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض، فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكر لها مثال، فإن المثال يعين على الفهم.
أما قوله ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ﴾ قال الواحدي : التصوير جعل الشيء على صورة، والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله، فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى :﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ (البقرة : ٢٦٠) وأما ﴿الارْحَامِ﴾ فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف، فلهذا سمي ذلك العضو رحماً والله أعلم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٤
١٣٧
اعلم أن في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في اتصال قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ بما قبله احتمالين أحدهما : أن ذلك كالتقرير لكونه قيوماً والثاني : أن ذلك الجواب عن شبه النصارى، فأما على الاحتمال الأول فنقول : إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح /الخلق ومصالح الخلق قسمان : جسمانية وروحانية، أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية، وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال، وهو المراد بقوله ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ﴾ (آل عمران : ٦) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله ﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام : إنه روح الله وكلمته، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على محكم وعلى متشابه، والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم، هو في غاية الحسن والاستقامة.
المسألة الثانية : اعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه.


الصفحة التالية
Icon