وقال المحققون : إن هذا يعم جميع المبطلين، وكل من احتج لباطله بالمتشابه، لأن اللفظ عام، وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ﴾ (العنكبوت : ٢٩) ﴿لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ﴾ (سبأ : ٣) ﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِ الملائكة ﴾ (الحجر : ٧) فموهوا الأمر على الضعفة، ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى :﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه : ٥) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومحدث، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان، فيكون قوله ﴿الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ متشابهاً، فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد، فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي، وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى، وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجباً، وعدمه عند عدم هذه الداعية واجباً، فحينئذ يبطل ذلك التفويض، وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته، فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالاً بالمتشابهات، فبيّن الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغاً عن الحق وطلباً لتقرير الباطل.
واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة، والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله : المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب، وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٣٧
وقال أبو مسلم الأصفهاني : الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال، ولا يتأوله على المحكم الذي بيّنه الله تعالى بقوله ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ﴾ (طه : ٨٥) ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَه وَمَا هَدَى ﴾ (طه : ٧٩) ﴿وَمَا يُضِلُّ بِه إِلا الْفَـاسِقِينَ﴾ (البقرة : ٢٦) وفسروا أيضاً قوله ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ (الإسراء : ١٦) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم، وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال :﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة : ١٨٥) ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ﴾ (النساء : ٢٦) وتأولوا قوله تعالى :﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ (النمل : ٤) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ (الرعد : ١١) ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى ا إِلا وَأَهْلُهَا ظَـالِمُونَ﴾ (القصص : ٥٩) وقال :﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ (فصلت : ١٧) وقال :﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ﴾ (يونس : ١٠٨) وقال :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات : ٧) فكيف يزين النعمة ؟
فهذا ما قاله أبو مسلم، وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات/ وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات ؟
ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر، وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر ؟
ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة، فإذا دلّ على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية، فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح، وذلك تصريح بنفي الصانع، ولا يتم إلا إذا قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به، فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص، وذلك نفي للصانع، ولزم منه أيضاً أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالماً وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالماً، ولو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها، فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه، فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة.


الصفحة التالية
Icon