أما كلام أهل السنة فظاهر، وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والطبع، والرين، والقسوة، والوقر، والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي : التوفيق، والرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان، فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين، فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين، ومن أنصف ولم يتعسف، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس، ولو جوّز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان صلى الله عليه وسلّم يقول :"يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" ومعناه ما ذكرنا /فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق، فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني.
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات، بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال، وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات، ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك، وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات، وهذا كلام متين.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٤٨
وأما المعتزلة فقد قالوا : لما دلّت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله تعالى، وجب صرف هذه الآية إلى التأويل، فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى :﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة : ٦).
ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى :﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم، وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول : وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي : أن المراد بقوله ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ (الصف : ٥) يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان، وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال : أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى :﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ والثاني : قال الأصم : لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾ (النساء : ٦٦) وقال :﴿لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ﴾ (الزخرف : ٣٣) والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ، وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك الثالث : قال الكعبي ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ أي لا تسمنا باسم الزائغ، كما يقال : فلان يكفر فلاناً إذا سماه كافراً، والرابع : قال الجبائي : أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا ؛ وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر، وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر، فقوله ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ محمول على أن يميته قبل أن يصير كافراً، وذلك لأن إبقاءه حياً إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس : قال الأصم ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس : قال أبو مسلم : احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ، فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٤٨
أما الأول : فلأن من مذهبم أن كل ما صحّ في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفاً /وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلهيته، ولصار جاهلاً ومحتاجاً والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على الله فعل جميع الألطاف.


الصفحة التالية
Icon