المسألة الرابعة : قوله ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخباراً عن الغيب وهو معجز، ونظيره قوله تعالى :﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنَى الارْضِ وَهُم مِّنا بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ (الروم : ٢، ٣) الآية، ونظيره في حق عيسى عليه السلام ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ﴾ (آل عمران : ٤٩).
المسأُلة الخامسة : دلّت الآية على حصول البعث في القيامة، وحصول الحشر والنشر، وأن مرد الكافرين إلى النار.
ثم قال :﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال :﴿وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ والمهاد : الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش، قال الله تعالى :﴿وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ﴾ (الذاريات : ٤٨) فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة، قال الله تعالى :﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابا بَئِيس ﴾ (الأعراف : ١٦٥) أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٥٤
١٥٥
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : لم يقل : قد كانت لكم آية، بل قال :﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ﴾ وفيه وجهان :
الأول : أنه محمول على المعنى، والمراد : قد كان لكم إتيان هذا آية.
والثاني : قال الفرّاء : إنما ذكر للفصل الواقع بينهما، وهو قوله ﴿لَكُمْ﴾.
المسألة الثانية : وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى :﴿سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ﴾ نزلت في اليهود، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم، فقال :﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ﴾ يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره، ومن كان كذلك فإنه يكون غالباً لجميع الخصوم، سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة، فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾ الآية، فهذا هو الكلام في وجه النظم.
المسألة الثالثة : الجماعة، وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين : رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وقادوا مائة فرس، وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر، وكان في الرجال دروع سوى ذلك، وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بين كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة، ومن الخيل فرسان، ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٥٥
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً الأول : أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور، منها : قل العدد، ومنها : أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنها قلة السلاح والفرس، ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها : كثرة العدد، ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب، ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم، ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة، والمقاتلة في الأزمنة الماضية، وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة، ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً.
والوجه الثاني : في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله ﴿يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّآاـاِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ (الأنفال : ٧) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.


الصفحة التالية
Icon