القول الثاني : وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة ﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِه مَن يَشَآءُا إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ﴾ ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بيّن أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية، واللذات الدنيوية، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها، وتبقى تبعاتها، ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ ﴾ (آل عمران : ١٥) ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ من الذي زين ذلك ؟
أما أصحابنا فقولهم /فيه ظاهر، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضاً قالوا : لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان، فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان، وإن كان من الله تعالى، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله ﴿رَبَّنَا هَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ﴾ (القصص : ٦٣) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا، وهذا الكلام ظاهر جداً.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٥٩
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال :
القول الأول : حكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زين لهم، وكان يحلف على ذلك بالله، واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها : أنه تعالى أطلق حب الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها : أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه، ومنتهى مقصوده، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها : قوله تعالى :﴿ذَالِكَ مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها : قوله بعد هذه الآية ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ ﴾ (آل عمران : ١٥) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه.
والقول الثاني : قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى، وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة/ ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها : أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة، والله تعالى قد ندب إليها، فكان مزيناً لها، وإنما قلنا : إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول : أن يتصدق بها والثاني : أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث : أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع : أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس : قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة : ٢٩) وقال :﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ (الأعراف : ٣٢) وقال :﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ (الكهف : ٧) وقال :﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف : ٣١) وقال /في سورة البقرة ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٢) وقال ﴿كُلُوا مِمَّا فِى الارْضِ حَلَـالا طَيِّبًا﴾ (البقرة : ١٦٨) وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ على تسمية الفاعل.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٥٩
والقول الثالث : وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى، وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم، وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى، أو من الشيطان.
المسألة الثالثة : قوله ﴿حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ فيه أبحاث ثلاثة :


الصفحة التالية
Icon