المسألة الثانية : قال المتكلمون : الثواب له ركنان أحدهما : المنفعة، وهي التي ذكرناها، والثاني : التعظيم، وهو المراد بالرضوان، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم، حامد لهم، مثن عليهم، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع، وأما الحكماء فإنهم قالوا : الجنّات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية، وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته، ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله تعالى، وفي آخرها مرضياً عند الله تعالى، والله الإشارة بقوله ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ (الفجر : ٢٨) ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍا وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ (التوبة : ٧٢).
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٦٣
ثم قال :﴿وَاللَّهُ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ﴾ أي عالم بمصالحهم، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٦٣
١٦٥
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في إعراب موضع ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ وجوه الأول : أنه خفض صفة /للذين اتقوا، وتقدير الآية : للذين اتقوا الذين يقولون، ويجوز أن يكون صفة للعباد، والتقدير : والله بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنّات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني : أن يكون نصباً على المدح والثالث : أن يكون رفعاً على التخصيص، والتقدير : هم الذين يقول كذا وكذا.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ﴿رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا﴾ ثم إنهم قالوا بعد ذلك ﴿فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم، والثناء عليهم، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى، فإن قالوا : الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ وأيضاً فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور، وتاب عن جميع الذنوب، كان إدخاله النار قبيحاً من الله عندهم، والقبيح هو الذي يلزم من فعله، إما الجهل، وإما الحاجة فهما محالان، ومستلزم المحال محال، فإدخال الله تعالى إياهم النار محال، وما كان محال الوقوع عقلاً كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثاً وقبيحاً، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة ﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلايمَـانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ﴾ (آل عمران : ١٩٣).
فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله ﴿الصَّـابِرِينَ وَالصَّـادِقِينَ﴾ (آل عمران : ١٧).
قلنا : تأويل هذه الآية ما ذكرناه، وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٦٥
١٦٦
وفيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿الصَّـابِرِينَ﴾ قيل نصب على المدح بتقدير : أعني الصابرين، وقيل : الصابرين في موضع جر على البدل من الذين.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة :
الصفة الأولى : كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى، كما قال :﴿الَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة : ١٥٦) قال سفيان بن عيينة في قوله ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾ (السجدة : ٢٤) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر، ويروى أنه وقف رجل على الشلبي، فقال : أي صبر أشد على الصابرين ؟
فقال الصبر في الله تعالى، فقال لا، فقال : الصبر لله تعالى فقال لا فقال : الصبر مع الله تعالى، قال لا قال فايش ؟
قال : الصبر عن الله تعالى، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.


الصفحة التالية
Icon