والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير، ثم قال :﴿فَإِنْ حَآجُّوكَ﴾ يعني فإن نازعوك في قولك ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ ﴾ (آل عمران : ١٩) فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته، ولا أشرك به غيره، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام، وهذا الوجه يناسب الآية.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٣
الوجه الرابع : في كيفية الاستدلال، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا﴾ (مريم : ٤٢) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً، ويكون أمري في يديه، وحكمي في قبضة قدرته، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له، وأن انقاد له، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير، والشر، والنفع، والضر، والتدبير، والتقدير.
الوجه الخامس : يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله ﴿إِذْ قَالَ لَه رَبُّه ا أَسْلِم قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ (البقرة : ١٣١) وهذا مروي عن ابن عباس.
أما قوله ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ﴾ ففيه وجوه الأول : قال الفرّاء أسلمت وجهي لله، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له، ولم يشاركه غيره قال : ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَه ﴾ (الكهف : ٢٨) أي عبادته، ويقال : هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول : وجهت وجهي إليك، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه : مرّ على وجهه الثاني : أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه الثالث : أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته، عادل عن كل ما سواه.
وأما قوله ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : حذف عاصم وحمزة والكسائي، الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعاً للمصحف، وأثبته الآخرون على الأصل :
المسألة الثانية :﴿مِنْ﴾ في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله ﴿أَسْلَمْتُ﴾ أي ومعنى اتبعني أسلم أيضاً.
فإن قيل : لم قال أسلمت ومن اتبعن، ولم يقل : أسلمت أنا ومن اتبعن.
قلنا : إن الكلام طال بقوله ﴿وَجْهِىَ لِلَّهِ﴾ فصار عوضاً من تأكيد الضمير المتصل، ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال : أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر، ومن جاء معي جاز وحسن.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ١٧٣
ثم قال تعالى :﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَالامِّيِّانَ ءَأَسْلَمْتُمْ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب، سواء كان محقاً في تلك الدعوى كاليهود والنصارى، أو كان كاذباً فيه كالمجوس، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان.
المسألة الثانية : إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول : أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني : أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم.
المسألة الثالثة : دلّت هذه الآية على أن المراد بقوله ﴿فَانٍ﴾ عام في كل الكفار، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله ﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾ ودخل من لا كتاب له تحت قوله ﴿الامِّيِّـانَ﴾.
ثم قال الله تعالى ﴿ءَأَسْلَمْتُمْ ﴾ فهو استفهام في معرض التقرير، والمقصود منه الأمر قال النحويون : إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة، وهي التعبير بكون المخاطب معانداً بعيداً عن الانصاف، لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان ؛ هل فهمتها ؟
فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليداً قليل الفهم، وقال الله تعالى في آية الخمر ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ (المائدة : ٩١) وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهى عنه.


الصفحة التالية
Icon