المسألة الثالثة : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم، وهم أعز وأمنع من ذلك، وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فخبره، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبّر وكبر المسلمون، وقال عليه الصلاة والسلام :"أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب" ثم ضرب الثانية، فقال :"أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم" ثم ضرب الثالثة فقال :"أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا" فقال المنافقون : ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم، وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء، وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم.
المسألة الرابعة :﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله ﴿مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه، قال صاحب "الكشاف" ﴿مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه ﴿مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ على الإطلاق، فصل بعد ذلك وذكر أنواعاً خمسة :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
النوع الأول : قوله تعالى :﴿تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ﴾ وذكروا فيه وجوهاً الأول : المراد منه : ملك النبوّة والرسالة، كما قال تعالى :﴿فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ (النساء : ٥٤) والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر، فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم، وأن يعتقد أنه هو الحق، وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل، ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولاً فحكى الله عنهم قولهم ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا﴾ (الإسراء : ٩٤) وقال الله /تعالى :﴿وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَـاهُ رَجُلا﴾ (الأنعام : ٩) وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولاً من البشر، إلا أنهم كانوا يقولون : إن محمداً فقير يتيم، فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف : ٣١) وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا، وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلّم ؟
وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة، على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله ﴿مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه ا فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ﴾ (النساء : ٣٧).
وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَا وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (آل عمران : ١٢) أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلّم بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم، ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء، فقال ﴿تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ﴾.
فإن قيل : فإذا حملتم قوله ﴿تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ﴾ على إيتاء ملك النبوّة، وجب أن تحملوا قوله ﴿وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ﴾ على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً، ومعلوم أن ذلك لا يجوز.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
قلنا : الجواب من وجهين الأول : أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل، فإذا أخرجها الله من نسله، وشرَّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل، صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل، فلما شرف الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بها، صح أن يقال : إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب.


الصفحة التالية
Icon