فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة، والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم، فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات، وأيضاً فقوله ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾ يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك، كما أن قوله تعالى :﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ﴾ (الكافرين : ٦) أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره، فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه، وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه، إذا عرفت هذا فنقول : أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد، وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال : كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر، ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير، ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائداً في الخيرية على الله تعالى، وفي الفضيلة والكمال، وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥
فإن قيل : فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال :﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾ كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله.
والجواب : أن قوله ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾ يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره، وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي : كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه وهداهم إليه لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى، ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد، وذلك على خلاف هذا النص.
أما قوله ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال.
أما قوله تعالى :﴿تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ ﴾ فيه وجهان الأول : أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلاً في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني : أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار، فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر، والأول أقرب إلى اللفظ، لأنه إذا كان النهار طويلاً فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلاً في الليل.
وأما قوله ﴿وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة والكسائي ﴿الْمَيِّتِ﴾ بالتشديد، والباقون بالتخفيف، وهما لغتان بمعنى واحد، قال المبرد : أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا :
إنما الميت ميت الأحياء
وهو مثل قوله : هين وهين، ولين ولين، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات، والميت من لم يمت.
المسألة الثانية : ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني : يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث : يخرج الحيوان من النطفة، والطير من البيضة وبالعكس والرابع : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس، والنخلة من النواة وبالعكس، قال القفال رحمه الله : والكلمة محتملة /للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾ (الأنعام : ١٢٢) يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعل قبل ذلك ميتة فقال ﴿فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَـارِ رَحْمَتِ﴾ (الروم : ١٩) وقال :﴿فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ (فاطر : ٩) وقال :﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (البقرة : ٢٨).
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٨٥


الصفحة التالية
Icon