المسألة الثانية : اعلم أن العمل لا يبقى، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين الأول : أنه يجد صحائف الأعمال، وهو قوله تعالى :﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية : ٢٩) وقال :﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ا أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه ﴾ (المجادلة : ٦) الثاني : أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى :﴿مُّحْضَرًا﴾ يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المعنى : أن جزاء العمل يكون محضراً، كقوله ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ (الكهف : ٤٩) وعلى كلا الوجهين، فالترغيب والترهيب حاصلان.
أما قوله :﴿وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَه ا أَمَدَا بَعِيدًا ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الواحدي : الأظهر أن يجعل ﴿مَآ﴾ ههنا بمنزلة الذي، ويكون ﴿عَمِلَتْ﴾ صلة لها، ويكون معطوفاً على ﴿مَآ﴾ الأول، ولا يجوز أن تكون ﴿مَآ﴾ شرطية، وإلا كان يلزم أن ينصب ﴿تَوَدُّ﴾ أو يخفضه، ولم يقرأه أحد إلا بالرفع، فكان هذا دليلاً على أن ﴿مَآ﴾ ههنا بمعنى الذي.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٥
فإن قيل : فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله، ودت.
قلنا : لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع، لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم، وأكثر موافقة للقراءة المشهورة.
المسألة الثانية : الواو في قوله ﴿وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ﴾ فيه قولان الأول : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : الواو واو العطف، والتقدير : تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء، وأما قوله ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَه ا أَمَدَا بَعِيدًا ﴾ ففيه وجهان الأول : أنه صفة للسوء، والتقدير : وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني : أن يكون حالاً، والتقدير : يوم تجد ما عملت من سوء محضراً حال ما تود بعده عنها.
والقول الثاني : أن الواو للاستئناف، وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين، وموضع الكرم واللطف هذا، وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضراً وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه، والبعد عنه، وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد.
المسألة الثالثة : الأمد، الغاية التي ينتهي إليها/ ونظيره قوله تعالى :﴿قَالَ يَـالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ (الزخرف : ٣٨).
واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان، إذ المقصود تمني بعده، ثم قال :﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه ﴾ وهو لتأكيد الوعيد. ثم قال :﴿وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ﴾ وفيه وجوه الأول : أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، وأنه يمهل ولا يمهل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذرهم من استحقاق غضبه، قال الحسن : ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني : أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث : أنه لما قال :﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه ﴾ وهو للوعيد أتبعه بقوله ﴿وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ﴾ وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته، غالب على وعيده وسخطه والرابع : وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص، قال تعالى :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا﴾ (الفرقان : ٦٣) وقال تعالى :﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ (الإنسان : ٦) فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال :﴿وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ﴾ أي كما هو منتقم من الفساق، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٥


الصفحة التالية
Icon