إذا عرفت هذا فنقول. في الآية قولان الأول : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني : أن يكون المعنى : إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال /الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما : أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني : أنه موافق لقوله تعالى :﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ﴾ (الأنعام : ١٢٤) وذكر الحليمي في كتاب "المنهاج" أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مدركة، وإما محركة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
أما المدركة : فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها : القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلّم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول : قوله صلى الله عليه وسلّم :"زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها" والثاني : قوله صلى الله عليه وسلّم :"أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلّم وهو قوله تعالى :﴿وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ (الأنعام : ٧٥) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله : وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى الله عليه وسلّم أقوى من بصرها وثانيها : القوة السامعة، وكان صلى الله عليه وسلّم أقوى الناس في هذه القوة، ويدل عليه وجهان أحدهما : قوله صلى الله عليه وسلّم :"أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى" فسمع أطيط السماء والثاني : أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن، قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ﴾ (النمل : ١٨) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم، وكان ذلك حاصلاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها : تقوية قوة الشم/ كما في حق يعقوب عليه السلام، فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، فلما فصلت العير قال يعقوب ﴿إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ (يوسف : ٩٤) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها : تقوية قوة الذوق، كما في حق رسولنا صلى الله عليه وسلّم حين قال :"إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم" وخامسها : تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه، فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة، وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ، قال تعالى :﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ﴾ (الأعلى : ٦) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام :"علمني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب" فإذا كان حال الولي هكذا، فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلّم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
وأما القوى المحركة : فمثل عروج النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المعراج، وعروج عيسى حياً /إلى السماء، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار، وقال الله تعالى :﴿قَالَ الَّذِى عِندَه عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ أَنَا ءَاتِيكَ بِه قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ (النمل : ٤٠).
وأما القوى الروحانية العقلية : فلا بد وأن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء.
واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء، والفطنة، والحرية، والاستعلاء، والترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء.


الصفحة التالية
Icon