قلنا : ليس هذا بآية، بل يحتاج تصحيحه إلى آية، فكيف نحمل الآية على ذلك، بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها، وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس : ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلاً خارقاً للعادة، فنقول : إما أن يقال : إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام، ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالماً بحاله وشأنه، فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم ﴿أَنَّى لَكِ هَـاذَا ﴾ وأيضاً فقوله تعالى :﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه ﴾ مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من /المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا بأخبار مريم، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال : إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام، أو كانت كرامة لمريم عليها السلام، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء.
اعترض أبو علي الجبائي وقال : لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام، وبيانه من وجهين الأول : أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقاً، وأنه ربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها ﴿أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه ﴾ فعنذ ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني : يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً إلا أنه كان يأتيها من السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت هو من عند الله لا من عند غيره.
المقام الثاني : أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات، بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات، فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال، هذا مجموع ما قاله الجبائي في "تفسيره" وهو في غاية الضعف، لأنه لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك، ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأن يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يبق أيضاً لقوله ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه ﴾ فائدة، وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة، وأيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق.
أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوّة لا يوجد مع غير الأنبياء، كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم.
والجواب من وجوه الأول : وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي، فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً، وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً والثاني : قال بعضهم : الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون /بإخفائها والثالث : وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة، فهذا جملة الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق.
ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام :﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم، وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، وقوله ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بغير تقدير لكثرته، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها، وهذا كقوله ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ (الطلاق : ٣) وههنا آخر الكلام في قصة حنة.
القصة الثانية
واقعة زكريا عليه السلام
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٩٨
٢٠٨
في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon