السؤال الأول : لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع ؟
والجواب من وجوه الأول : أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني : أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً قال عليه الصلاة والسلام :"أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد" فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٧
ثم قال :﴿وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ﴾ وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة، فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات، وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث : قال ابن الأنباري : قوله تعالى :﴿اقْنُتِى﴾ أمر بالعبادة على العموم، ثم قال بعد ذلك ﴿وَاسْجُدِى وَارْكَعِى﴾ يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، واستعملي الركوع في وقته اللائق به، وليس المراد أن يجمع بينهما، ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله ﴿وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ﴾ (ق : ٤٠) وفي الحديث "إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين" وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة، وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز.
إذا ثبت هذا فنقول قوله ﴿الْعَـالَمِينَ * يَـامَرْيَمُ اقْنُتِى﴾ معناه : يا مريم قومي، وقوله ﴿وَاسْجُدِى﴾ أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة، ثم قال :﴿وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ﴾ إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله ﴿وَاسْجُدِى﴾ أمراً بالصلاة حال الانفراد، وقوله ﴿وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ﴾ أمراً بالصلاة في الجماعة، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله ﴿وَاسْجُدِى﴾ أمراً ظاهراً بالصلاة، وقوله ﴿وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ﴾ أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب.
الوجه الخامس في الجواب : لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع.
السؤال الثاني : اما المراد من قوله ﴿وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ﴾.
والجواب : قيل معناه : افعلي كفعلهم، وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه، وإن كانت لا تختلط بهم.
السؤال الثالث : لم لم يقل واركعي مع الراكعات ؟
والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء.
واعلم أن المفسرين قالوا : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها، /قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢١٧
٢١٩
وفيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي.
فإن قيل : لم نفيت هذه المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم ؟
قلنا : كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة، ونظيره ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ﴾ (القصص : ٤٤)، ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ﴾ (القصص : ٤٦) وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} (يوسف : ١٠٢) (يوسف : ١٠٢) ﴿مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـاذَا ﴾ (هود : ٤٩).
المسألة الثانية : الأنباء : الإخبار عما غاب عنك، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله تعالى :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ (النحل : ٦٨) وقال في الشياطين ﴿لَيُوحُونَ إِلَى ا أَوْلِيَآاـاِهِمْ﴾ (الأنعام : ١٢١) وقال :﴿فَأَوْحَى ا إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ (مريم : ١١) فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً.
أما قوله تعالى :﴿إِذْ يُلْقُون أَقْلَـامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon