المسألة الثالثة : المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعاً من الآيات، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ الجنس لا الفرد.
ثم قال :﴿أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّه ﴾.
اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام :
النوع الأول
ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة ﴿إِنِّى ﴾ بفتح الهمزة، وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح ﴿إِنِّى ﴾ فقد جعلها بدلاً من آية كأنه قال : وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين، ومن كسر فله وجهان أحدهما : الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني : أنه فسّر الآية بقوله ﴿أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم﴾ ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى :﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ ﴾ (الفتح : ٢٩) ثم فسّر الموعود بقوله ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ وقال :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾ (آل عمران : ٥٩) ثم فسّر المثل بقوله. ﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾ (آل عمران : ٥٩) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح ﴿إِنِّى ﴾ على جعله بدلاً من آية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
المسألة الثانية :﴿أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ﴾ أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى :﴿قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ﴾ (البقرة : ٢١) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضاً فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد، أما القرآن فآيات أحدها : قوله تعالى :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ (المؤمنون : ١٤) أي المقدرين، وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير والتسوية وثانيها : أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء ﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا خُلُقُ الاوَّلِينَ﴾ (الشعراء : ١٣٧) وفي العنكبوت ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾ (العنكبوت : ١٧) وفي سورة ص ﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا اخْتِلَـاقٌ﴾ (ص : ٧) والكاذب إنما سمي خالقاً لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره وثالثها : هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله ﴿أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ﴾ أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ﴾ (المائدة : ١١٠) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير ورابعها : قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة : ٢٩) وقوله ﴿خُلِقَ﴾ إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله ﴿خُلِقَ﴾ على الإيجاد والإبداع، لكان المعنى : أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك باطل بالاتفاق، فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض، وأما الشعر فقوله :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ
ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله :
ولا يعطي بأيدي الخالق ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد : فهو أنه يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخلقاء الملساء، لأن الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في لفظ ﴿الْخَلْقِ ﴾ قال أبو عبد الله البصري : إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال، وقال أصحابنا : الخالق، ليس إلا الله، واحتجوا عليه بقوله تعالى :﴿اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ (الرعد : ١٦) ومنهم من احتج بقوله ﴿هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم﴾ (فاطر : ٣) وهذا ضعيف، لأنه تعالى قال :﴿هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ﴾ (فاطر : ٣) فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقاً من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه، ليس إلا الله، صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله.
وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالاً في حق الله تعالى فالعلم ثابت.
إذا عرفت هذا فنقول :﴿أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ﴾ معناه : أصور وأقدر وقوله ﴿كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ﴾ فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله ﴿فَأَنفُخُ فِيهِ﴾ أي في ذلك الطين المصور وقوله ﴿فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّه ﴾ ففيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon