القول السابع : إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له، ذابين عنه، قالوا ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك.
ثم قال تعالى :﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
المسألة الأولى : أصل المكر في اللغة، السعي بالفساد في خفية ومداجاة، قال الزجاج : يقال مكر الليل، وأمكر إذا أظلم، وقال الله تعالى :﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (الأنفال : ٣٠) وقال :﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ (يوسف : ١٠٢) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى :﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ (يونس : ٧١) فلما كان المكر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور، لا جرم سمي مكراً.
المسألة الثانية : أما مكرهم بعيسى عليه السلام، فهو أنهم هموا بقتله، وأما مكر الله تعالى بهم، ففيه وجوه الأول : مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وذلك أن يهودا ملك اليهود، أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل عليه السلام، لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله /﴿وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ (البقرة : ٨٧) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة، وكان قد ألقى شبهه على غيره، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق، فرقة قالت : كان الله فينا فذهب، وأخرى قالت : كان ابن الله، والأخرى قالت : كان عبد الله ورسوله، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم، وفي الجملة، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه.
الوجه الثاني : أن الحواريين كانوا إثنى عشر، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم، ودل اليهود عليه، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، فكان ذلك هو مكر الله بهمه
الوجه الثالث : ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام، فشمسوهم وعذبوهم، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل، فقال : لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم، ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام، فأخبروه فتابعهم على دينهم، وأنزل المصلوب فغيبه، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم، وكان اسم هذا الملك طباريس، وهو صار نصرانياً، إلا أنه ما أظهر ذلك، ثم إنه جاء بعده ملك آخر، يقال له : مطليس، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
القول الرابع : أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم، وهو قوله تعالى :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ (الإسراء : ٥) فهذا هو مكر الله تعالى بهم.
القول الخامس : يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود والله أعلم.
المسألة الثالثة : المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر، والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً أحدها : أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر، كقوله ﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة، وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء والثاني : أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث : أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات، لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال /الشر إلى الغير، وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon