الوجه الأول : أن المراد إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله ﴿إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى﴾ (الصافات : ٩٩) وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلّم من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان : ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، وقد يسمي الحجاج زوار الله، ويسمى المجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا.
الوجه الثاني : في التأويل أن يكون قوله ﴿وَرَافِعُكَ إِلَىَّ﴾ معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السموات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله.
الوجه الثالث : إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سبباً لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان، فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى.
الصفة الثالثة : من صفات عيسى قوله تعالى :﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.
الصفة الرابعة : قوله ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ ﴾ وجهان الأول : أن المعنى : الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به، وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال/ ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهودياً ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك الثاني : أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله ﴿وَرَافِعُكَ إِلَىَّ﴾ هو الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة.
أما قوله ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فالمعنى أنه تعالى بشّر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة، والدرجات الرفيعة العالية، وأما في القيامة /فإنه يحكم بين المؤمنين به، وبين الجاحدين برسالته، وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال :﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ (النساء : ١٥٧) والأخبار أيضاً واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه، وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه، وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات :
الإشكال الأول : إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة، فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات، وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً صلى الله عليه وسلّم يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع، وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.


الصفحة التالية
Icon