أحدها : أنه من صلصال والصلصال : اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت. والثاني : الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة، وتغير لونه إلى السواد. والثالث : تغير رائحته قال تعالى :﴿فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ (البقرة : ٢٥٩) أي لم يتغير.
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام.
المسألة الرابعة : في الآية إشكال، وهو أنه تعالى قال :﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قول الله له ﴿كُنَّ﴾ وذلك غير جائز.
وأجاب عنه من وجوه الأول : قال أبو مسلم : قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديماً من الأزل إلى الأبد، وأما قوله ﴿كُنَّ﴾ فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله ﴿كُنَّ﴾.
والجواب الثاني : وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له ﴿كُنَّ﴾ أي أحياه كما قال :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم عليه السلام موجوداً.
أجاب القاضي وقال : بل كان موجوداً وإنما وجد بعد حياته، وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي : إما المزاج المعتدل، أو النفس، وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي، ولا شك أنها من أغمض المسائل.
الجواب : الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك، تسمية لما سيقع بالواقع.
والجواب الثالث : أن قوله ﴿ثُمَّ قَالَ لَه كُن فَيَكُونُ﴾ يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى :﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (البلد : ١٧) ويقول القائل : أعطيت زيداً اليوم ألفاً ثم أعطيته أمس ألفين، ومراده : أعطيته اليوم ألفاً، ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله ﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾ أي صيره خلقاً سوياً ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له ﴿كُنَّ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
المسألة الخامسة : في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال : ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال :﴿كُن فَيَكُونُ﴾.
والجواب : تأويل الكلام، ثم قال له ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ فكان.
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك ﴿كُنَّ﴾ فإنه يكون لا محالة.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٢٦
٢٤٤
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الفرّاء، والزجاج قوله ﴿الْحَقِّ ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والمعنى : الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام، أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام ﴿الْحَقِّ ﴾ فحذف لكونه /معلوماً، وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام، وخبره قوله ﴿مِن رَّبِّكَ﴾ وهذا كما تقول الحق من الله، والباطل من الشيطان، وقال آخرون : الحق، رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق.
وقيل : أيضاً إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير، تقديره : من ربك الحق فلا تكن.
المسألة الثانية : الامتراء الشك، قال ابن الأنباري : هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب، يقال قد مارى فلان فلاناً إذا جادله، كأنه يستخرج غضبه، ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه.
المسألة الثالثة : في الحق تأويلان الأول : قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا : إن مريم ولدت إلهاً، واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار، فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه، ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك.
والقول الثاني : أن المراد أن الحق في بين هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله تعالى :﴿فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ خطاب في الظاهر مع النبي صلى الله عليه وسلّم، وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكاً في صحة ما أنزل عليه، وذلك غير جائز، واختلف الناس في الجواب عنه، فمنهم من قال : الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى :﴿الْحَكِيمُ * يَـا أيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ والثاني : أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى : فدم على يقينك، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٤٤
٢٤٥


الصفحة التالية
Icon