المسألة الثلاثون : لا يمكننا القطع بأن دلالة الألفاظ توقيفية، ومنهم من قطع به، واحتج فيه بالعقل والنقل : أما العقل فهو أن وضع الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة لا يمكن إلا بالقول، فلو كان ذلك القول بوضع آخر من جانبهم لزم أن يكون كل وضع مسبوقاً بوضع آخر لا إلى نهاية، وهو محال، فوجب الانتهاء إلى ما حصل بتوقيف الله تعالى، وأما النقل فقوله تعالى :﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة : ٣١) وأجيب عن الأول بأنه لِمَ لا يجوز أن يكون وضع الألفاظ للمعاني يحصل بالإشارة ؟
وعن الثاني لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من التعليم الإلهام ؟
وأيضاً لعل هذه اللغات وضعها أقوام كانوا قبل آدم عليه السلام، ثم إنه تعالى علمها لآدم عليه السلام.
المسألة الحادية والثلاثون : لا يمكن القطع بأنها حصلت بالاصطلاح، خلافاً للمعتزلة، واحتجوا بأن العلم بالصفة إذا كان ضرورياً كان العلم بالموصوف أيضاً ضرورياً، فلو خلق الله تعالى العلم في قلب العاقل بأنه وضع هذا اللفظ لهذا المعنى لزم أن يكون العلم بالله ضرورياً وذلك يقدح في صحة التكليف، وأجيب عنه بأنه لِمَ لا يجوز أن يقال : إنه تعالى يخلق علماً ضرورياً في القلب بأن واضعاً وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من غير أن يخلق العلم بأن ذلك الواضع هو الله تعالى ؟
وعلى هذا التقدير فيزول الإشكال.
المسألة الثانية والثلاثون : لما ضعفت هذه الدلائل جوزنا أن تكون كل اللغات توقيفية وأن تكون كلها اصطلاحية، وأن يكون بعضها توقيفياً وبعضها اصطلاحياً.
المسألة الثالثة والثلاثون : اللفظ المفرد لا يفيد البتة مسماه لأنه ما لم يعلم كون تلك اللفظة موضوعة لذلك المعنى لم يفد شيئاً، لكن العلم بكونها موضوعة لذلك المعنى علم بنسبة مخصوصة بين ذلك اللفظ وذلك المعنى، والعلم بالنسبة المخصوصة بين أمرين مسبوق بكل واحد منهما فلو كان العلم بذلك المعنى مستفاداً من ذلك اللفظ لزم الدور. وهو محال، وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه إذا استقر في الخيال مقارنة بين اللفظ المعين والمعنى المعين فعند حصول الشعور باللفظ ينتقل الخيال إلى المعنى/ وحينئذٍ يندفع الدور.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
المسألة الرابعة والثلاثون : والإشكال المذكور في المفرد غير حاصل في المركب ؛ لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها إفادة وضعية، أما التركيبات فعقلية، فلا جرم عند سماع تلك المفردات يعتبر العقل تركيباتها ثم يتوصل بتلك التركيبات العقلية إلى العلم بتلك المركبات، فظهر الفرق.
اللفظ يدل على المعنى الذهني لا الخارجي
المسألة الخامسة والثلاثون : للألفاظ دلالات على ما في الأذهان لا على ما في الأعيان ولهذا السبب يقال : الألفاظ تدل على المعاني، لأن المعاني هي التي عناها العاني، وهي أمور ذهنية، والدليل على ما ذكرناه من وجهين : الأول : أنا إذا رأينا جسماً من البعد وظنناه صخرة قلنا إنه صخرة، فإذا قربنا منه وشاهدنا حركته وظنناه طيراً قلنا إنه طير، فإذا ازداد القرب علمنا أنه إنسان فقلنا إنه إنسان، فاختلاف الأسماء عند اختلاف التصورات الذهنية يدل على أن مدلول الألفاظ هو الصور الذهنية لا الأعيان الخارجة، الثاني : أن اللفظ لو دل على الموجود الخارجي لكان إذا قال إنسان العالم قديم وقال آخر العالم حادث لزم كون العالم قديماً حادثاً معاً، وهو محال، أما إذا قلنا إنها دالة على المعاني الذهنية كان هذان القولان دالين على حصول هذين / الحكمين من هذين الإنسانين، وذلك لا يتناقض.
المسألة السادسة والثلاثون : لا يمكن أن تكون جميع الماهيات مسميات بالألفاظ، لأن الماهيات غير متناهية، وما لا نهاية له لا يكون مشعوراً به على التفصيل، وما لا يكون مشعوراً به امتنع وضع الاسم بإزائه.
المسألة السابعة والثلاثون : كل معنى كانت الحاجة إلى التعبير عنه أهم، كان وضع اللفظ بإزائه أولى، مثل صيغ الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والدليل عليه أن الحاجة إلى التعبير عنها ماسة فيكون الداعي إلى ذلك الوضع كاملاً، والمانع زائلاً، وإذا كان الداعي قوياً والمانع زائلاً، كان الفعل به واجب الحصول.
المسألة الثامنة والثلاثون : المعنى الذي يكون خفياً عند الجمهور يمتنع كونه مسمى باللفظ المشهور، مثاله لفظة الحركة لفظة مشهورة وكون الجسم منتقلاً من جانب إلى جانب أمر معلوم لكل أحد، أما الذي يقول به بعض المتكلمين ـ وهو المعنى الذي يوجب ذلك الانتقال ـ فهو أمر خفي لا يتصوره إلا الخواص من الناس، وإذا كان كذلك وجب أن يقال : الحركة اسم لنفس هذا الانتقال لا للمعنى الذي يوجب الانتقال وكذلك يجب أن يكون العلم اسماً لنفس العالمية، والقدرة اسماً للقادرية، لا للمعنى الموجب للعالمية والقادرية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٧
المعنى اسم للصورة الذهنية :


الصفحة التالية
Icon