قوله تعالى :﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً ﴾.
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : بث منهما : يريد فرق ونشر، قال ابن المظفر : البث تفريقك الأشياء، يقال : بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه، وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض، وبثثت البسط إذا نشرتها، قال الله تعالى :﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ قال الفراء والزجاج : وبعض العرب يقول : أبث الله الخلق.
المسألة الثانية : لم يقل : وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله :﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً ﴾.
فان قيل : لم لم يقل : وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً ؟
ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء ؟
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٧٥
قلنا : السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم، فكانت كثرتهم أظهر، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول.
المسألة الثالثة : الذين يقولون : إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر، وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام، حملوا قوله :﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً ﴾ على ظاهره، والذين أنكروا ذلك قالوا : المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين، فكان الكل مضافا اليهما على سبيل المجاز.
قوله تعالى :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِه وَالارْحَامَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
فيه مسائل.
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي :﴿تَسَآءَلُونَ﴾ بالتخفيف والباقون بالتشديد، فمن شدد أراد : تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس، ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة، فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالادغام، وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالادغام.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٧٥
المسألة الثانية : قرأ حمزة وحده ﴿وَالارْحَامَ ﴾ بجر الميم قال القفال رحمه الله : وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره/ وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم. وقال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿وَالارْحَامَ ﴾ بالحركات الثلاث، أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة، قالوا : لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز. واحتجوا على عدم جوازه بوجوه : أولها : قال أبو علي الفارسي : المضمر المجرور بمنزلة الحرف، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه، إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه : الأول : أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل، وذلك ان الهاء والكاف في قوله : به، وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين. الثاني : أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد، وذلك كقولهم : يا غلام، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه، فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف. وثانيها : قال علي بن عيسى : انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع. فلا يجوز أن يقال : اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون : يا غلام، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه، فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف. وثانيها : قال علي بن عيسى : انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع. فلا يجوز أن يقال : اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون : اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد. قال تعالى :﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا﴾ مع ان المضمر المرفوع قد ينفصل، فاذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع انه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى. وثالثها : قال أبو عثمان المازني : المعطوف والمعطوف عليه متشاركان، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول، وههنا هذا المعنى غير حاصل، وذلك لأنك لا تقول : مررت بزيدوك، فكذلك لا تقول مررت بك وزيد.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٧٥