فقيل له : الضمير في قوله "كأنه" ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول : كأنها، وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول : كأنهما، فقال : أردت كأن ذاك، وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا، وفيه وجه ثالث : وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق، والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق.
المسألة الخامسة : معنى الآية : فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن، فكلوه وأنفقوه، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب/ ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال :﴿فَإِن طِبْنَ﴾ ولم يقل : فان وهبن أو سمحن، إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة.
المسألة السادسة : الهنيء والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل : الهنىء ما يستلذه الآكل، والمريء ما يحمد عاقبته، وقيل : ما ينساغ في مجراه، وقيل : لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة : المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه. وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران، فالهنيء شفاء من الجرب، قال المفسرون : المعنى انهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، وبالجملة فهو عبارة عن التحليل، والمبالغة في الاباحة وإزالة التبعة.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
المسألة السابعة : قوله :﴿هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا﴾ وصف للمصدر، أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوهو وهو هنيء مريء، وقد يوقف على قوله :﴿فَكُلُوهُ﴾ ثم يبتدأ بقوله :﴿هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا﴾ على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل : هنأ مرأ.
المسألة الثامنة : دلت هذه الآية على أمور : منها : ان المهر لها ولا حق للولي فيه، ومنها جواز هبتها المهر للزوج، وجواز أن يأخذه الزوج، لأن قوله :﴿فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا﴾ يدل على المعنيين، ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض، لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين.
وههنا بحث وهو أن قوله :﴿فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا﴾ يتناول ما إذ كان المهر عينا، أما إذا كان دينا / فالآية غير متناولة له، فانه لا يقال لما في الذمة : كله هنيئاً مريئاً.
قلنا : المراد بقوله :﴿فَكُلُوهُ هَنِى ـاًا مَّرِى ـاًا﴾ ليس نفس الأكل، بل المراد منه حل التصرفات، وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل، ونظيره قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا﴾ (النساء : ١٠) وقال :﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ﴾.
المسألة التاسعة : قال بعض العلماء : ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً، وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح : رد عليها، فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى :﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ﴾ فقال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وروي عنه أيضا : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن، وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل : أعطتني طيبة به نفسها، فقال عبد الملك : فان الآية التي بعدها ﴿فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـاًا ﴾ اردد عليها. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته : ان النساء يعطين رغبة ورهبة، فايما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة.
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول : إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء اليهن، فانما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم، فأما إذا كانوا غير بالغين، أو غير عقلاء، أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين، فلا تدفعوا اليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه، والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال : أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم. والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله :﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه.
فان قيل : فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال : ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلم قال أموالكم ؟


الصفحة التالية
Icon