واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله :﴿وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ ﴾ (النساء : ٢) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم اليهم شرطين : أحدهما : بلوغ النكاح، والثاني : إيناس الرشد، ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم اليهم، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : غير صحيحة، احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية، وذلك لان قوله :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء، وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء، وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار، فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء، يقال : وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه / لدخل، فثبت أن قوله :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى ﴾ أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم.
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال : ليس المراد بقوله :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى ﴾ الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ﴾ فانما أمر بدفع المال اليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر، وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر، لأنه لا قائل بالفرق، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي، وأما الذي احتجوا به، فجوابه : أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله، في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد، وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي، ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء، وأيضا : هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري، فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء، بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله، فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء، وهذا محتمل والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
المسألة الثانية : المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله :﴿وَإِذَا بَلَغَ الاطْفَـالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ﴾ (النور : ٥٩)وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام، وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع.
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة : منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والاناث، وهو الاحتلام والسن المخصوص، ونبات الشعر الخشن على العانة، واثنان منها مختصان بالنساء، وهما : الحيض والحبل.
المسألة الثالثة : أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد، أما الايناس فقوله :﴿ءَانَسْتُم﴾ أي عرفتم وقيل : رأيتم، وأصل الايناس في اللغة الابصار، ومنه قوله :﴿مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ﴾ (القصص : ٢٩)وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله، بل لا بد وأن يكون هذا مراداً، وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته، ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين ؟
فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر، والأول أولى، ويدل عليه وجوه : أحدها : أن أهل اللغة قالوا : الرشد هو إصابة الخير، والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير. وثانيها : أن الرشد نقيض / الغي قال تعالى :﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ ﴾ (البقرة : ٢٥٦) والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى :﴿وَعَصَى ا ءَادَمُ رَبَّه فَغَوَى ﴾ (طه : ١٢١) فجعل العاصي غويا، وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين، وثالثها : أنه تعالى قال :﴿وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ (هود : ٩٧) نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين والله أعلم.
إذا عرفت هذا فنقول : فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق، وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه.


الصفحة التالية
Icon