والقول الثالث : قال أبو بكر الرازي : الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا. واحتج عليه بآيات : منها : قوله تعالى :﴿وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ ﴾ إلى قوله :﴿إِنَّه كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ (النساء : ٢) ومنها : قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (النساء : ١٠) ومنها :﴿وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـامَى بِالْقِسْطِ ﴾ (النساء : ١٢٧) ومنها : قوله :﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ﴾ (البقرة : ١٨٨) قال : فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر، وقوله :﴿وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي / اليه. أما قوله :﴿وَءَاتُوا الْيَتَـامَى ا أَمْوَالَهُمْ ﴾ فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة، والخاص مقدم على العام. وقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا﴾ فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم، وهل النزاع الا فيه، وهو الجواب بعينه عن قوله :﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ﴾ أما قوله :﴿وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـامَى بِالْقِسْطِ ﴾ فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط، والنزاع ليس إلا فيه، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١
ثم قال تعالى :﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ﴾.
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا، فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه : أحدها : أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له، وثانيها : أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه. ثالثها : أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب" فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه، فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد. واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال اليه هل هو مصدق ؟
وكذلك لو قال : أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق ؟
قال مالك والشافعي : لا يصدق، وقال أبو حنيفة وأصحابه : يصدق، واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله :﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ﴾ أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وأيضا قال الشافعي : القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم/ وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال : لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم : قد دفعت اليك لأنه لم يأتمنه، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي : قد دفعت مالك اليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه، فيقال له : ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه، أما النقض بالقاضي فبعيد، لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر، ويلزم التسلسل، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين : أحدهما : ان شفقته أتم من شفقة الاجنبي، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي، وأما إذا تصادقوا بعد / البلوغ أنه قد هلك فنقول : ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره، فههنا يجب أن يقبل قوله، والا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم، فأما الاشهاد عند الرد اليه بعد البلوغ فانه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة، وهو قوله :﴿وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ﴾ وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الايتام والصبيان، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩١


الصفحة التالية
Icon