المسألة الخامسة : قالت المعتزلة : الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل/ سواء كان مسلما أو لم يكن ؛ لأن قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا﴾ عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله :﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة، والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى :﴿وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ﴾ (البقرة : ٢٥٤) ثم قالت المعتزلة : ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية، وإذا كان كذلك، فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة، فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله، فقال أبو علي الجبائي : قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة، هذا جملة ما ذكره القاضي، فيقال له : فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين أحدهما : أنك زدت فيه شرط عدم التوبة. والثاني : أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو ؟
أقصى ما في الباب أن يقال : ما وجدنا دليلا يدل / على حصول العفو، لكنا نجيب عنه من وجهين : أحدهما : أنا لا نسلم عدم دلائل العفو، بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة. والثاني : هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا يفيد القطع بعدم الوجود، بل يبقى الاحتمال، وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
المسألة السادسة : أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال :﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم ﴾ (التوبة : ٣٥) وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار، ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب، بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله، أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح، فكان الوعيد أشد، ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب، أما اليتيم فانه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد.
ثم قال تعالى :﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ بضم الياء، أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال : صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء، وهو صالي النار، وقوم صالون وصلاء قال تعالى :﴿إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ (الصافات : ١٦٣) وقال :﴿أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا﴾ (مريم : ٧٠) وقال :﴿جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ﴾ (إبراهيم : ٢٩، ص : ٥٦، المجادلة : ٨) قال الفراء : الصلي : اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت، وإذا فتحت قصرت، ومن ضم الياء فهو من قولهم : أصلاه الله حر النار اصلاء. قال :﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ﴾ (النساء : ٣٠) وقال تعالى :﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ (المدثر : ٢٦) قال صاحب "الكشاف" : قرىء بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها.
المسألة الثانية : السعير : هو النار المستعرة يقال : سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير، والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة، وإنما قال :﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة : روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية، فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى :﴿وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٢٠) ومن الجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا، بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية، وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر، كما في قوله :﴿وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon