واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين : الأول : أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان اخراجها شاقا على الورثة، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها، ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة "أو" على الوصية والدين، تنبيها على أنهما في وجوب الاخراج على السوية. الثاني : أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية/ ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة / بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث، وليس كذلك الدين، فانه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا، فالوصية تشبه الارب من وجه، والدين من وجه آخر، أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما معنى "أو" ههنا وهلا قيل : من بعد وصية يوصى بها ودين، والجواب من وجهين : الأول : أن "أو" معناها الاباحة كما لو قال قائل : جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس، فان جالست الحسن فأنت مصيب، أو ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعتهما فأنت مصيب، أما لو قال : جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر، فكذا ههنا لو قال : من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران، ومعلوم أنه ليس كذلك، أما اذا ذكره بلفظ "أو" كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما. الثاني : أن كلمة "أو" اذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله :﴿وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ (الإنسان : ٢٤) وقوله :﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ﴾ (الأنعام : ١٤٦) فكانت "أو" ههنا بمعنى الواو، فكذا قوله تعالى :﴿مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا.
المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ﴿يُوصِى﴾ بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى :﴿مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَه وَلَدٌ ﴾.
قوله تعالى :﴿وَأَبْنَآؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ﴾.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦


الصفحة التالية
Icon