المسألة الثانية : قال الشافعي رحمة الله عليه : اذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب، حجة الشافعي : أن الزكاة الواجبة والحج الواحب / دين فيجب اخراجه بهذه الآية، وإنما قلنا إنه دين، لأن اللغة تدل عليه، والشرع أيضاً يدل عليه، أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد/ قيل في الدعوات المشهورة ؛ يا من دانت له الرقاب، أي انقادت، وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلّم عن الحج الذي كان على أبيها، فقال عليه الصلاة والسلام :"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزىء ؟
فقالت نعم، فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يقضي" إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى :﴿مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ قال أبو بكر الرازي : المذكور في الآية الدين المطلق، والنبي صلى الله عليه وسلّم سمى الحج دينا لله، والاسم المطلق لا يتناول المقيد.
قلنا : هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين، وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة، وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب والله أعلم.
المسألة الثالثة : اعلم أن قوله تعالى :﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ ﴾ نصب على الحال، أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته.
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه : أحدها : أن يوصي بأكثر من الثلث. وثانيها : أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي. وثالثها : أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة. ورابعها : أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل اليه. وخامسها : أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة. وسادسها : أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة، فهذا هو وجه الاضرار في الوصية.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
واعلم أن العلماء قالوا : الأولى أن يوصى بأقل من الثلث، قال علي : لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع. ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث. وقال النخعي : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يوص، وقبض أبو بكر فوصى، فان أوصى الانسان فحسن، وإن لم يوص فحسن أيضا.
واعلم أن لأولى بالانسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم.
المسألة الرابعة : روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الاضرار في الوصية من الكبائر. واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى :﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّه وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ (النساء : ١٣) قال ابن عباس في الوصية :﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ (النساء : ١٤) قال في الوصية، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"الاضرار في الوصية من الكبائر" وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" وقال عليه الصلاة والسلام :"من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة" ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث، وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه، وذلك من أكبر الكبائر.
ثم قال تعالى :﴿وَصِيَّةً مِّنَ اللَّه ﴾ وفيه سؤالان :
السؤال الأول : كيف انتصاب قوله :﴿وَصِيَّةٍ﴾.
والجواب فيه من وجوه : الأول : أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية، كقوله :﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه ﴾ (النساء : ١١)الثاني : أن تكون منصوبة بقوله :﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ ﴾ (النساء : ١٢) أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث. الثالث : أن يكون التقدير : وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الاسراف في الوصية، وينصر هذا الوجه قراءة الحسن : غير مضار وصية بالاضافة.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٠٦
السؤال الثاني : لم جعل خاتمة الآية الأولى :﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّه ﴾ وخاتمة هذه الآية ﴿وَصِيَّةً مِّنَ اللَّه ﴾.
الجواب : ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل، وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى، ثم قال :﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته ﴿حَلِيمٌ﴾ على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon