المسألة الأولى : قالوا : كل حي لا عقل له فهو بهيمة، من قولهم : استبهم الأمر على فلان ءذا أشكل، وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى :﴿وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾ إلى قوله ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ﴾ (النحل : ٥ ـ ٨) ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير. وقال تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ * وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ (يس : ٧١، ٧٢) وقال :﴿وَمِنَ الانْعَـامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ إلى قوله ﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ وإلى قوله ﴿وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ﴾ (للأنعام : ١٤٢ ـ ١٤٤) قال الواحدي رحمه الله : ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٧٦
إذا عرفت هذا فنقول : في لفظ الآية سؤالات : الأول : أن البهيمة اسم الجنس، والأنعام اسم النوع فقوله ﴿بَهِيمَةُ الانْعَـامِ﴾ يجري مجرى قول القائل : حيوان الإنسان وهو مستدرك. الثاني : أنه تعالى لو قال : أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاماً بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانْعَـامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ (الحج : ٣٠) فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية. الثالث : أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان، ولفظ الأنعام بلفظ الجمع، فما الفائدة فيه ؟
والجواب عن السؤال الأول من وجهين : الأول : أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان، وهذه الإضافة بمعنى ﴿مَنْ﴾ كخاتم فضة، ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا : نفس الشيء وذاته وعينه. الثاني : أن المراد بالبهيمة شيء، وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : الأول : أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة. الثاني : أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال : هذا من بهيمة الأنعام. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه.
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم.
المسألة الثانية : قالت الثنوية : ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله. قالوا : والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلاّ أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح.
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها. وهذا كالمكابرة في الضروريات، وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض. وههنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً، قالوا : والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة للطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح. وقال أصحابنا : إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٧٦
المسألة الثالثة : قال بعضهم : قوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الانْعَـامِ﴾ مجملل ؛ لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال، وههنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلا بدّ من إضمار فعل، وليس إضمار بعض الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة، إلاّ أن قوله تعالى :﴿وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَـافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ (النحل : ٥) دل على أن المراد بقوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الانْعَـامِ﴾ إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه.