ثم قال تعالى :﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْه ﴾ وفيه أقوال : الأول : أن المعنى : سم الله إذا أرسلت كلبك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"إذا أسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل" وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله ﴿عَلَيْهِ﴾ عائد إلى ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾ أي سموا عليه عند إرساله.
القول الثاني : الضمير عائد إلى ما أمسكن، يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكاته. الثالث : أن يكون الضمير عائداً إلى الأكل، يعني واذكروا اسم الله على الأكل. روي أنه صلى الله عليه وسلّم قال لعمر بن أبي سلمة :"سم الله وكل مما يليك".
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن متروك التسمية عامداً يحل أكله، فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام، وإن حملناه على الأول والثالني كان المراد من الأمر الندب توفيقاً بينه وبين النصوص الدالة على حله، وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير قوله ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ (الأنعام : ١٢١).
ثم قال تعالى :﴿وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٠
٢٩٣
قوله تعالى :﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ ﴾.
اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات، وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم، ثم أعاد ذكره في هذه الآية، والغرض من ذكره أنه قال :﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النعمة في كل ما يتعلق بالدين، فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا، ومنها إحلال الطيبات، والغرض من الاعادة رعاية هذه النكتة.
ثم قال تعالى :﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ وفي المراد بالطعام ههنا وجوه ثلاثة : الأول : أنه الذبائح، يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاس نسائهم، وعن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلاّ شرب الخمر، وبه أخذ الشافعي رحمه الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به، وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه الله.
والوجه الثاني : أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة، وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية، والثالث : أن المراد جميع المطعومات، والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه : أحدها : أن الذبائح هي التي تصير طعاماً بفعل الذابح، فحمل قوله ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾ على الذبائح أولى، وثانيها : أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم، فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة، وثالثها : ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح، فحمل هذه الآية على الذبائح أولى.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٣
ثم قال تعالى :﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ أي ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا، وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين.
ثم قال تعالى :﴿وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـاتِ﴾ وفي المحصنات قولان : أحدهما : أنها الحرائر، والثاني : أنها العفائف، وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة، والقول الأول أولى لوجوه : أحدها : أنه تعالى قال بهد هذه الآية ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ﴾ ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها، وثانيها : أنا بينا في تفسير قوله تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ ﴾ (النساء : ٢٥) أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين : عدم طول الحرة، وحصول الخوف من العنت، وثالثها : أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهراً على تحريم نكاح الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم، أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات/ ورابعها : أنا بينا أن اشتقاق الاحصان من التحصن، ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتاً منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلاّ أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة، فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها.
ثم قال تعالى :﴿وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وفي الآية مسائل :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٣


الصفحة التالية
Icon