أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، وأيضاً فهذا الخبر يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان مواظباً على تجديد الوضوء لكل صلاة، وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى :﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ (سبأ : ٢٠) بقي أن يقال : قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح، فنقول : لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه : الأول : هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب، والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها، لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه، وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها. والثاني : أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحاً لقوله عليه الصلاة والسلام :"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" الثالث : أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد. والرابع : أن دلالة القرآن على قولنا لفظية، ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية، والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية، لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس، فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٦
والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال : لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء، لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا ﴾ (النساء : ٤٣) أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء، وذلك يدل على كون كل واحد منهما سبباً لوجوب الطهارة عند وجود الماء، وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة، وذلك يدل على ما قلناه.
المسألة الرابعة : اختلفوا في أن هذه الآية هل تدل على كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة ؟
والأصح أنها تدل عليه من وجيهن : الأول : أنه تعالى علق فعل الصلاة على الطهور بالماء، ثم بيّن أنه متى عدم لا تصح إلا بالتيمم، ولو لم يكن شرطاً لما صح ذلك. الثاني : أنه تعالى إنما أمر بالصلاة مع الوضوء، فالآتي بالصلاة بدون الوضوء تارك للمأمور به، وتارك المأمور به يستحق العقاب، ولا معنى للبقاء في عهدة التكليف إلا ذلك، فإذا ثبت هذا ظهر كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بمقتضى هذه الآية.
المسألة الخامسة : قال الشافعي رحمه الله : النيّة شرط لصحة الوضوء والغسل. وقال أبو حنيفة رحمه الله : ليس كذلك.
وأعلم أن كل واحد منهما يستدل لذلك بظاهر هذه الآية.
أما الشافعي رحمه الله فإنه قال : الوضوء مأمور به، وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً فالوضوء يجب أن يكون منوياً، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون شرطاً لأنه لا قائل بالفرق، وإنما قلنا : إن الوضوء مأمور به لقوله ﴿فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ (المائدة : ٦) ولا شك أن قوله ﴿فاغْسِلُوا ﴾ ﴿وَامْسَحُوا ﴾ أمر، وإنما قلنا : إن كل مأمور به أن يكون منوياً لقوله تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة : ٥) واللام في قوله ﴿لِيَعْبُدُوا ﴾ ظاهر للتعليل، لكن تعليل أحكام الله تعالى محال، فوجب حمله على الباء لما عرف من جواز إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض، فيصير التقدير : وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين/ والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، ومتى كانتالنية الخالصة معتبرة كان أصل النية معتبراً. وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان، فثبت بما ذكرنا أن كل وضوء مأمور به، وثبت أن كل مأمور به يجب أن يكون منوياً مخصوص في بعض الصور، لكنا إنما أثبتنا هده المقدمة بعموم النص، والعام حجة في غير محل التخصيص.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٢٩٦
وأما أبو حنيفة رحمه الله فإنه احتج بهذه الآية على أن النية ليست شرطاً لصحة الوضوء، فقال : إنه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها، فإيجاب النية زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس لا يجوز.
وجوابنا : إنا بينا أنه إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن.
المسألة السادسة : قال الشافعي رحمه الله : الترتيب شرط لصحة الوضوء، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : ليس كذلك، احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على قوله من وجوه : الأول : أن قوله ﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى﴾ يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب، وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق.


الصفحة التالية
Icon