ثم انه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال :﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ وفيه سؤال، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه، والاشكال عليه أن يقال : إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة، فإن كان موضع الالزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله، ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا. انظروا إلى وقعة أحد، وإلى قتل الحسن والحسين، وإن كان موضع الالزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك. ومجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلّم ليس بكاف في هذا الباب، إذ لو كان كافياً لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافياً، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعاً.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٢٨
والجواب من وجوه : الأول : أن موضع الالزام هو عذا الدنيا، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول : لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا، ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال. الثاني : أن موضع الالزام هو عذاب الآخرة، واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا ﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ﴾ (البقرة : ٨٠) والثالث : المراد بقوله ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾ فلم مسخكم، فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، إلاّ أنهم لما كانوا من جنيس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة، وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون : لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قوياً متيناً.
ثم قال تعالى :﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَا يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم ﴿نَحْنُ أَبْنَاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه ﴾ كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم.
وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلاً إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد، ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إلهيته ولخرج عن صفة الحكمة، وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه، وكما أن قوله ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ إبطال لقول اليهود. فبأن يكون إبطالاً لقول المعتزلة أولى وأكمل.
ثم قال تعالى :﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقاً واجباً ؟
وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه ديناً. إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذباً.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٢٨
ثم قال تعالى :﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال ﴿وَالامْرُ يَوْمَا ِذٍ لِّلَّهِ﴾ (الانفطار : ١٩).
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٢٨
٣٣٠
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ وجهان : الأول : أن يقدر المبين، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك المبين هو الدين والشرائع، وإنما حسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع، وثانيها : أن يكون التقدير يبين لكم ما كنتم تخفون، وإنما حسن حذفه لتقدم ذكره.
الوجه الثاني : أن لا يقدر المبين ويكون المعنى يبين لكم البيان، وحذف المفعول أكمل لأن على هذا التقدير يصير أعم فائدة.
المسألة الثانية : قوله ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ في محل النصب على الحال، أي مبيناً لكم.
المسألة الثالثة : قوله ﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾ قال ابن عباس : يريد على انقطاع من الأنبياء، يقال : فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه، وسميت المدة التي بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع.


الصفحة التالية
Icon