فإن قيل : لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي، وكان معه الرجلان المذكوران ؟
قلنا : كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد، وأيضاً لعلّه إنما قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه، وأيضاً يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين، وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله ﴿وَأَخِى ﴾.
ثم قال :﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم، وهو كقوله ﴿وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ (القصص : ٢١).
ثم إنه تعالى قال :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٤
٣٣٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله ﴿فَإِنَّهَا﴾ أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، وفي قوله ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ قولان : أحدهما : أنها منضصوبة بالتحريم، أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة، ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة، هكذا ذكره الربيع بن أنس.
والقول الثاني : أنها منصوبة بقوله ﴿يَتِيهُونَ فِى الارْضِ ﴾ أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة، وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا، ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة.
المسألة الثانية : يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ (المائدة : ٢٥) لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب، بل أخف منه. فلما أخبره الله تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه، فقال ﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ قال مقاتل : إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه، ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذكل، فقالوا له : لم دعوت علينا وندم موسى على ما عمل، فأوحى الله تعالى إليه ﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ وجائز أن يكون ذلك خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلّم، أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل والله أعلم.
المسألة الثالثة : اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا ؟
فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه، قالوا : ويدل عليه وجوه : الأول : أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة، وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع، والثاني : أن ذلك التيه كان عذاباً والأنبياء لا يعذبون، والثالث : أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك، فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب. وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها برداً وسلاماً، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه ؟
فقال قوم : إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة، وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، وهو الذي فتح الأرض المقدسة.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٣٥
وقيل : إنه ملك الشأم بعد ذلك. وقال آخرون : بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله أعلم.
المسألة الرابعة : قوله ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد، وقيل : يجوز أيضاً أن يكون تحريم تعبد، فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقاباً لهم على سوء صنيعهم.
المسألة الخامسة : اختلفوا في التيه فقال الربيع : مقدار ستة فراسخ، وقيل : تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً. وقيل : ستة في اثنى عشر فرسخاً، وقيل : كانوا ستمائة ألف فارس.
فإن قيل : كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغيرل من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقاً إلى الخروج عنها، ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم، فكيف في المفازة الصغيرة ؟
قلنا : فيه وجهان : الأول : أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد، إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات/ وإنه باطل. الثاني : إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرّم عليهم الرجوع إلى أوطانهم، بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاءً لهم على سوء صنيعهم، وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال.


الصفحة التالية
Icon