قال أصحابنا : القول بتعليل أحكام الله تعالى محال لوجوه : أحدها : أن العلة إن كانت قديمة لزم قدم المعلول، وإن كانت محدثة وجب تعليلها بعلة أخرى ولزم التسلسل، وثانيها : لو كان معللاً بعلة فوجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إلى الله تعالى إن كان على السوية امتنع كونه علة، وإن لم يكن على السوية فأحدهما به أولى، وذلك يقتضي كونه مستفيداً تلك الأولوية من ذلك الفعل، فيكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وهو محال. وثالثها : أنه قد ثبت توقف الفعل على الوداعي، ويمتنع وقوع التسلسل في الدواعي، بل يجب انتهاؤها إلى الداعية الأولى التي حدثت في العبد لا من العبد بل من الله، وثبت أن عند حدوث الداعية يجب الفعل، وعلى هذا التقدير فالكل من الله، وهذا يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه، فثبت أن ظاهر هذه الآية من المتشابهات لا من المحاكمات، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى :﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْاًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّه وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا ﴾ (المائدة : ١٧) وذلك نص صريح في أنه يحسن من الله كل شيء ولا يتوقف خلقه وحكمه على رعاية المصالح.
المسألة الرابعة : قوله ﴿أَوْ فَسَادٍ فِى الارْضِ﴾ قال الزجاج : إنه معطوف على قوله ﴿نَفْسٍ﴾ والتقدير من قتل نفساً بغير نفس أو بغير فساد في الأرض، وإنما قال تعالى ذلك لأن القتل يحل لأسباب كثيرة، منها القصاص وهو المراد بقوله ﴿مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الارْضِ﴾ ومنها الكفر مع الحراب، ومنها الكفر بعد الإيمان، ومنها قطع الطريق وهو المراد بقوله تعالى بعد هذه الآية ﴿إِنَّمَا جَزَا ؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ (المائدة : ٣٣) فجمع تعالى كل هذه الوجوه في قوله ﴿أَوْ فَسَادٍ فِى الارْضِ﴾.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٢
المسألة الخامسة : قوله فكأنما قتل الناس جميعاً} وفيه إشكال. وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس، فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل، وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه، لأن قولنا : هذا يشبه ذاك أعم من قولنا : ءنه يشبهه من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه، وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول : الجواب من وجوه : الأول : المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام، لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى : وفيه إشكال. وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس، فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل، وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه، لأن قولنا : هذا يشبه ذاك أعم من قولنا : ءنه يشبهه من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه، وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول : الجواب من وجوه : الأول : المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام/ لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى :﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه وَأَعَدَّ لَه عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (النساء : ٩٣).
الوجه الثاني في الجواب : هو أن جميع الناس لو علموا من إنسان واحد أنه يقصد قتلهم بأجمعهم فلا شك أنهم يدفعونه دفعاً لا يمكنه تحصيل مقصوده، فكذلك إذا علموا منه أنه يقصد قتل إنسان واحد معين يجب أن يكون جدهم واجتهادهم في منعه عن قتل ذلك الإنسان مثل جدهم واجتهادهم في الصورة الأولى.