حجة الشافعي رحمه الله : أنه تعالى نص على الصلب كما نص على القتل فلم يجز إسقاط الصلب كما لم يجز إسقاط القتل. ثم اختلفوا في كيفية الصلب، فقيل : يصلب حياً ثم بطنه برمح حتى يموت، وقال الشافعي رحمه الله : يقتل ويصلى عليه ثم يصلب.
المسألة السادسة : اختلفوا في تفسير النفي من الأرض. قال الشافعي رحمه الله : معناه إن وجد هؤلاء المحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن لم يجدهم طلبهم أبداً حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه، وبه قال أحمد وإسحاق رحمهما الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله : النفي من الأرض هو الحبس، وهو اختيار أكثر أهل اللغة، قالوا : ويدل علليه أن قوله ﴿أَوْ يُنفَوْا مِنَ الارْضِ ﴾ إما أن يكون المراد النفي من جميع الأرض، وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة، وإما أن يكون إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى، وهو أيضاً غير جائز ؛ لأن الغرض من هذا النفي دفع شره عن المسلمين، فلو أخرجناه إلى بلد آخر لاستضر به من كان هناك من المسلمين، وإما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو أيضاً غير جائز، لأن إخراج المسلم إلى دار الكفر تعريض له بالردة وهو غير جائز، ولما بطل الكل لم يبق إلاّ أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلاّ مكان الحبس. قالوا : والمحبوس قد يسمى منفياً من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبان الدنيا ولذاتها، ولا يرى أحداً من أحبابه، فصار منفياً عن جميع اللذات والشهوات والطيبات فكان كالمنفي في الحقيقة. ولما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه هنالك ذكر شعراً، منه قوله :
خرجان عن الدنيا وعن وصل أهلها
فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتىإذا جاءنا السجان يوماً لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا قال الشافعي رحمه الله : هذا النفي المذكور في الآية محمول على وجهين : الأول : أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. الثاني : القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد، وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً. فيقوم الشافعي ههنا : إن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم عن الأرض هو هذا الحبس لا غير، والله أعلم.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٥
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا ﴾ أي فضيحة وهوان ﴿وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
قالت المعتزلة : الآية دالة على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة، ودالة على أن قتلهم قد أحبط ثوابهم، لأنه تعالى حكم بأن ذلك لهم خزي في الدنيا والآخرة، وذلك يدل على كونهم مستحقين للذم، وكونهم مستحقين للذم في الحال يمنع من بقاء استحاقهم للمدح والتعظيم لما أن ذلك جمع بين الضدين، وإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بالقطع بوعيد الفساق، وثبت القول بالإحباط.
والجواب : لا نزاع بيننا وبينكم في أن هذا الحد إنما يكون واقعاً على جهة الخزي والاستخفاف إذا لم تحصل التوبة، فأما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الخزي والاستخفاف/ بل يكون على جهة الامتحان، فإذا جاز لكم أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التوبة لدليل دل على اعتبار هذا الشرط، فنحن أيضاً نشرط هذا الحكم بشرط عدم العفو، وحينئذ لا يبقى الكلام إلاّ في أنه هل دلّ هذا الدليل على أنه تعالى يعفو عن الفساق أم لا ؟
وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِه خَطِى ـئَتُه فَأُوالَا ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِا هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة : ٨١) ثم قال تعالى :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٥
٣٤٨
قال الشافعي رحمه الله تعالى : لما شرح ما يجب على هؤلاء المحاربين من الحدود والعقوبات استثنى عنه ما إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وضبط هذا الكلام أن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى فإنه يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين فإنه لا يسقط، فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنساناً ثم تابوا قبل القدرة علليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو، إلا أنه يزول حتم القتل بسبب هذه التوبة، وإن أخذ مالاً وجب عليه رده ولم يكن عليه قطع اليد أو الرجل، وأما إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه، وتقام الحدود عليه. قال الشافعي رحمه الله تعالى : ويحتمل أن يسقط كل حد الله بالتوبة، لأن ماعزاً لما رجم أظهر توبته، فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال :"هلا تركتموه"، أو لفظ هذا معناه، وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٤٨
٣٤٨