المسألة الثامنة : قال المعتزلة : قوله ﴿نَكَالا مِّنَ اللَّه ﴾ يدل على أنه إنما أقيم عليه هذا الحد على سبيل الاستخفاف والإهانة، وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بكونه مستحقاً للاستخفاف والذم والإهانة، ومتى كان لأمر كذلك امتنع أن يقال : إنه بقي مستحقاً للمدح والتعظيم، لأنهما ضدان والجمع بينهما محال، وذلك يدل على أن عقاب الكبير يحبط ثواب الطاعات.
وأعلم أنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة في بطلان القول بالإحباط في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :"دلا تبطلوا صداقاتكم بالمن والأذى} (البقرة : ٢٦٤) فلا نعيدها ههنا.
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة/ فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل، بل تكون على سبيل الامتحان، لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو.
المسألة التاسعة : قالت المعتزلة : قوله (البقرة : ٢٦٤) فلا نعيدها ههنا.
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة، فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل، بل تكون على سبيل الامتحان، لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو.
المسألة التاسعة : قالت المعتزلة : قوله ﴿جَزَآءَ بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِّنَ اللَّه ﴾ يدل على تعليل أحكام الله، فإن الباء في قوله ﴿بِمَا كَسَبَا﴾ صريح في أن القطع إنما وجب معللاً بالسرقة.
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٥١
وجوابه ما ذكرناه في هذه السورة في قوله ﴿مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسرائيل أَنَّه مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ (المائدة : ٣٢).
المسألة العاشرة : قوله ﴿جَزَآءَ بِمَا كَسَبَا﴾ قال الزجاج : جزاء نصب لأنه مفعول له، والتقدير فاقطعوهم لجزاء فعلهم، وكذلك ﴿نَكَالا مِّنَ اللَّه ﴾ فإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دلّ عليه ﴿فَاقْطَعُوا ﴾ والتقدير : جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالاً من الله.
أما قوله ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فالمعنى : عزيز في انتقامه، حكيم في شرائعه وتكاليفه. قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية فقلت ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ سهواً، فقال الأعرابي : كلام من هذا ؟
فقلت كلام الله. قال أعد، فأعدت : والله غفورٌ رحيم، ثم تنبهت فقلت ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فقال : الآن أصبت، فقلت كيف عرفت ؟
قال : يا هذا عزيزٌ حكيم فأمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ثم قال تعالى :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٥١
٣٥٧
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : دلّت الآية على أن من تاب فإن الله يقبل توبته، فإن قيل : قوله ﴿وَأَصْلَحَ﴾ يدل على أن مجرّد التوبة غير مقبول.
قلنا : المراد من قوله ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أي يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض.
المسألة الثانية : إذا تاب قبل القطع تاب الله عليه، وهل يسقط عنه الحد ؟
قال بعض العلماء التابعين : يسقط عنه الحد، لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر هذه الآية يدل على سقوط العقوبة عنه، والعقوبة المذكورة في هذه الآية هي الحد، فظاهر الآية يقتضي سقوطها. وقال الجمهور : لا يسقط عنه هذا الحد، بل يقام عليه على سبيل الإمتحان.
المسألة الثالثة : دلّت الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى لأنه تعالى تمدح بقبول التوبة، والتمدح إنما يكون بفعل التفضل والإحسان، لا بأداء الواجبات ثم قال تعالى :
جزء : ١١ رقم الصفحة : ٣٥٧
٣٥٧
واعلم أنه تعالى لما أوجب قطع اليد وعقاب الآخرة على السارق قبل التوبة، ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أن له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة تقدم السرقة على التوبة. قال الواحدي : الآية واضحة للقدرية في التعديل والتجويز، وقولهم بوجوب الرحمة للمطيع، ووجوب العذاب للعاصي على الله، وذلك لأن الآية دالة على أن الرحمة مفوضة إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك.


الصفحة التالية
Icon