واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بدّ وأن يكون لخوف ورهبة/ أو لطمع ورغبة، ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال :﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ﴾ والمعنى إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم، فلا تكونوا خائفين من الناس، بل كونوا خائفين مني ومن عقابي.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٥
ولما ذكر أمر الرهبة ابتعه بأمر الرغبة، فقال ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِاَايَـاتِى ثَمَنًا قَلِيلا﴾ أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة، فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها منهم في غاية القلة، والرشوة لكونها سحتاً تكون قليلة البركة والبقاء والمنفعة، فكذلك المال الذي تكتسبونه قليل من قليل، ثم أنتم تضيعون بسببه الدين والثواب المؤبد، والسعادات التي لا نهاية لها.
ويحتمل أيضاً أن يكون إقدامهم على التحريف والتبديل لمجموع الأمرين، للخوف من الرؤساء ولأخذ الرشوة من العامة، ولما منعهم الله من الأمرين على ما في كل واحد منهما من الدناءة والسقوط كان ذلك برهاناً قاطعاً في المنع من التحريف والتبديل.
ثم إنه أتبع هذا البرهان الباهر بالوعيد الشديد فقال :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾ وفليه مسألتان :
المسألة الأولى : المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في ءقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة وقالوا : إنه غير واجب، فهم كافرون على الاطلاق، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن.
المسألة الثانية : قالت الخوارج : كل من عصى الله فهو كافر. وقال جمهور الأئمة : ليس الأمر كذلك، أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا : إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجب أن يكون كافراً.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٥
وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة : الأول : أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم، وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال : المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا أيضاً ضعيف لأن قوله ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ كلام أدخل فيه كلمة ﴿مَنْ﴾ في معرض الشرط، فيكون للعموم. وقول من يقول : المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز. الثاني : قال عطاء : هو كفر دون كفر. وقال طاوس : ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر، فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضاً ضعيف، لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين. والثالث : قال ابن الأنباري : يجوز أن يكون المعنى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضالهي أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين، وهذا ضعيف أيضاً لأنه عدولل عن الظاهر. والرابع : قال عبد العزيز بن يحيى الكناني : قوله ﴿بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ صيغة عموم، فقوله ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله، أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلاّ في القليل، وهو العمل، أما في الاعتقاد والاقرار فهو موافق، وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم/ وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم، فيدل على سقوط هذا الجواب، والخامس : قال عكرمة : قوله ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٦٥
٣٦٨
ثم قال تعالى :﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالانْفَ بِالانْفِ وَالاذُنَ بِالاذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾.