قلنا : على ﴿الْكِتَـابِ﴾ في قوله ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ (المائدة : ٤٨) كأنه قيل : وأنزلنا إليك أن أحكم و﴿ءَانٍ﴾ وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله ﴿بِالْحَقِّ﴾ (المائدة : ٤٨) أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم، وقوله :﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله تعالى عن ذلك.
المسألة الثانية : قالوا : هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ (المائدة : ٤٢).
المسألة الثالثة : أعيد ذكر الأمة بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى إما للتأكيد، وءما لأنهما حكمان أمر بهما جميعاً، لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم.
ثم قال تعالى :﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنا بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾.
قال ابن عباس : يريد به يردوك إلى أنوائهم، فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن، ومنه قوله ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ (الإسرار : ٧٣) والفتنة ههنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان صلى الله عليه وسلّم يقول :"أعوذ بك من فتنة المحيا" قال هو أن يعدل عن الطريق. قال أهل العلم : هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول، لأن الله تعالى قال :﴿وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنا بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول، فلم يبق إلا الخطأ والنسيان.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٧٣
ثم قال تعالى :﴿فَإِن تَوَلَّوْا ﴾ أي فإن لم يقبلوا حكمك ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا، وهو أن يسلطك عليهم، ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء، وإنما خصّ الله تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم، وكان مجازاتهم بالبعض كافياً في إهلاكهم والتدمير عليهم، والله أعلم.
المسألة الثانية : دلت الآية على أن الكل بإرادة الله تعالى، لأنه لا يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم إلا وقد أراد ذنوبهم، وذلك يدل على أنه تعالى مريد للخير والشر.
ثم قال تعالى :﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَـاسِقُونَ﴾ لمتمردون في الكفر معتدون فيه، يعني أن التولي عن حكم الله تعالى من التمرد العظيم ولاعتداء في الكفر.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٧٣
٣٧٤
ثم قال تعالى :﴿أَفَحُكْمَ الْجَـاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على المغايبة، وقرأ المسلمي ﴿أَفَحُكْمَ الْجَـاهِلِيَّةِ﴾ برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع ﴿يَبْغُونَ ﴾ خبراً وإسقاط الاراجع عنه لظهوره، وقرأ قتادة ﴿تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ﴾ والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية، فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبيّيين حكماً كأولئك الحكام.
المسألة الثانية : في الآية وجهان : الأول : قال مقاتل : كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام، فلما بعث تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة : بنو النضير إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، وكتابنا واحد، فإن قتل بنو النضير منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر، وإن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً من تمر، وأروش جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فقال عليه السلام : فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري، ودم النضري وفاء من دم القرظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل، ولا جراحة، فغضب بنو النضير وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿أَفَحُكْمَ الْجَـاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ يعني حكمهم الأول. وقيل : إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به، فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية، الثاني : أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى.
ثم قال تعالى :﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ اللام في قوله ﴿لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ للبيان كاللام في ﴿هَيْتَ لَكَ ﴾ (يوسف : ٢٣) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكماً، ولا أحسن منه بياناً.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٧٤
٣٧٥


الصفحة التالية
Icon