المسألة الثالثة : ذكر عند الدخول كلمة ﴿قَدْ﴾ فقال ﴿وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ﴾ وذكر عند الخروج كلمة ﴿هُمُ﴾ فقال :﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه ﴾ قالوا : الفائدة في ذكر كلمة "قد" تقريب الماضي من الحال، والفائدة في ذكر كلمة "هم" التأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفى أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلّم في ذلك فعل، أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفراًد فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إنه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول والخروج على سبيل الذم، وبالغ في تقرير تلك الاضافة بقوله ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه ﴾ فدل هذا على أنه من العبد لا من الله.
والجواب : المعارضة بالعلم والداعي.
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ والغرض منه المبالغة فيما في قلوبهم من الجد والاجتهاد في المكر بالمسلمين والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩١
٣٩٢
المسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة. قيل : الإثم الكذب، والعدوان الظلم. وقيل : الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم، وأما أكل السحت فهو أخذ الرسوة، وقد تقدم الاستقصاء في تفسير السحت، وفي الآية فوائد :
الفائدة الأولى : أنه تعالى قال :﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ﴾ والسبب أن كلهم ما كان يفعل ذلك، بل كان بعضهم يستحيي فيترك.
الفائدة الثانية : أن لفظ المسارعة إنما يستعملل في أكثر الأمر في الخير. قال تعالى :﴿يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ﴾ (آل عمران : ١١٤) وقال تعالى :﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ ﴾ (المؤمنون : ٥٦) فكان اللائق بهذا الموضع لفظ العجلة، إلا أنه تعالى ذكر لفظ المسارعة لفائدة، وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيه.
الفائدة الثالثة : لفظ الاثم يتناول جميع المعاصي والمنهيات، فلما ذكر الله تعالى بعده العدوان وأكل السحت دلّ هذا على أن هذين النوعين أعظم أنواع المعصية والإثم ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩٢
٣٩٣
معنى ﴿لَوْلا﴾ ههنا التخصيص والتوبيخ، وهو بمعنى هلا، والكلام في تفسير الربانيين والأحبار قد تقدم. قال الحسن : الربانيون علماء أهل الإنجيل، والأحبار علماء أهل التوراة. وقال غيره : كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول : إن ذم تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول : إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (المائدة : ٦٢) وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقراً راسخاً متمكناً، فجعل جرم العاملين ذنباً غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنباً راسخاً، والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال، فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول، فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دلّ على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة، وعن ابن عباس : هي أشد آية في القرآن، وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩٣
٣٩٣
قوله تعالى :﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌا غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ا ﴾.
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك، ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه، ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده البتة، وأيضاً المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بدّ وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل، والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل، لأن قولنا (الله) اسم لموجود قديم، وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة، وإلا فكيف يمكنه مع اللقدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره.