ثم إنه تعالى بيّن أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدينا، لأن كل فريق منهم بقي مصراً على مذهبه ومقالته، يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيماً لنفسه وترويجاً لمذهبه، فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم، وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضاً ويغزو بعضهم بعضاً، وفي قوله ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ﴾ قولان : الأول : المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله ﴿لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَـارَى ﴾ (المائدة : ٥١) وهو قول الحسن ومجاهد. الثاني : أن المراد وقوع العداوة بين فرق اليهود، فإن بعضهم جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم موحدة، وبعضهم مشبهة، وكذلك بين فرق النصارى : كالملكانية والنسطورية واليعقوبية.
فإن قيل : فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين، فكيف يمكن جعله عيباً على اليهود والنصارى ؟
قلنا : هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين، أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلاً، فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى.
ثم قال تعالى :﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه ﴾.
وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود، وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى :﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا ﴾ (آل عمران : ١١٢) قال قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس.
ثم قال تعالى :﴿وَيَسْعَوْنَ فِى الارْضِ فَسَادًا﴾ أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة، إلا أنهم يسعون في الأرض فساداً، وذلك بأن يخدعوا ضعيفاً، ويستخرجوا نوعاً من المكر والكيد على سبيل الخفية. وقيل : إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلّط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩٣
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله تعالى ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩٣
٣٩٨
واعلم أنه تعالى لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم بين أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا، أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين : أحدهما : رفع العقاب، والثاني : إيصال الثواب، أما رفع العقاب فهو المراد بقوله ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ﴾ وأما إيصال الثواب فهو المراد بقوله ﴿سَيِّـاَاتِهِمْ وَلادْخَلْنَـاهُمْ جَنَّـاتِ النَّعِيمِ﴾.
فإن قيل : الإيمان وحده سبب مستقل باقتضاء تكفير السيآت وإعطاء الحسنات، فلم ضم إليه شرط التقوى ؟
قلنا : المراد كونه آتياً بالإيمان لغرض التقوى والطاعة، لا لغرض آخر من الأغراض العاجلة مثل ما يفعله المنافقون ثم قال تعالى :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٣٩٨
٣٩٨
واعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة، بيّن في هذه الآية أيضاً أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها، وفي إقامة التوراة والإنجيل ثلاثة أوجه : أحدها : أن يعملوا بما فيها من الوفاء بعهود الله فيها، ومن الاقرار باشتمالها في الدلائل الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم، وثانيها : إقامة التوراة إقامة أحكامها وحدودها كما يقال : أقام الصلاة إذا قام بحقوقها، ولا يقال لمن لم يوف بشرائطها : أنه أقامها. وثالثها : أقاموها نصب أعينهم لئلا يزلوا في شيء من حدودها، وهذه الوجوه كلها حسنة لكن الأول أحسن.
وأما قوله تعالى :﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم﴾ ففيه قولان : الأول : أنه القرآن، والثاني : أنه كتب سائر الأنبياء : مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق، وكتاب دانيال، فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام.