والجواب : أن جواب الشرط محذوف، وإنما جاز حدفه لأن الكلام المذكور دليل عليه، والتقدير : كلما جاءهم رسول ناصبوه، ثم ءنه قيل : فكيف ناصبوه ؟
فقيل : فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون. وقوله : الرسول الواحد لا يكون فريقين. فنقول : إن قوله ﴿كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولُ ﴾ يدل على كثرة الرسل، فلا جرم جعلهم فريقين.
السؤال الثاني : لم ذكر أحد الفعلين ماضياً، والآخر مضارعاً ؟
والجواب : أنه تعالى بيّن أنهم كيف كانوا يكذبون عيسى وموسى في كل مقام، وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه، وأنه عليه السلام إنما توفى في التيه في قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين.
وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق زكريا ويحيى عليهما السلام، وكانوا قد قصدوا أيضاً قتل عيسى وءن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه، فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام، لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريباً فكان كالحاضر.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٤
السؤال الثالث : ما الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى :﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾.
والجواب : قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية، فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح، فكان التقديم لهذه الفائدة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٤
٤٠٥
ثم قال تعالى :﴿وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرون ﴿أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ برفع نون (تكون) والباقون بالنصب، وذكر الواحدي لهذا تقريراً حسناً فقال : الأفعال على ثلاثة أضرب : فعل يدل علي ثبات الشيء واستقراره نحو : العلم والتيقن والتبين، فما كان مثل هذا يقع بعده (أن) الثقيلة ولم يقع بعده (أن) الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك لأن النثقيلة تدل على ثبات الشيء، واستقراره، فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و(إن) الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة، ومثاله من القرآن قوله تعالى :﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ (النور : ٢٥) ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَأْخُذُ﴾ (التوبة : ١٠٤) ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ (العلق : ١٤) والباء زائدة.
والضرب الثاني : فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار، نحو : أطمع وأخاف وأرجو، فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل، قال تعالى :﴿وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِى ئَتِى﴾ (الشعراء : ٨٢) ﴿تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ﴾ (الأنفال : ٢٦) ﴿فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا﴾ (الكهف : ٨٠).
والضرب الثالث : فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو : حسب وأخواتها، فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتاً ومستقراً، وتارة بمعنى العلم فيما يكو مستقراً.
إذا عرفت هذا فنقول : يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار، لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب، ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع، فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية، وإذا كان اللفظ محتملاً لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه صحة كل واحدة من هاتين القراءتين، فمن رفع قوله ﴿أَلا تَكُونَ﴾ كان المعنى : أنه لا تكون، ثم خففت المشددة وجعلت (لا) عوضاً من حدف الضمير، فلو قلت : علمت أن يقول : بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضاً من حذف الضمير : نحو السين وسوف وقد، كقوله ﴿عِلْمٌا إِنَّ﴾ (المزمل : ٢٠) ووجه النصب ظاهر.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٠٥