المسألة الثانية : الطعام في الأغلب من اللغة خلاف الشراب، فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشرب، إلا أن اسم الطعام قد يقع على المشروبات، كما قال تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّى ﴾ (البقرة : ٢٤٩) وعلى هذا يجوز أن يكون قوله ﴿جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ أي شربوا الخمر، ويجوز أن يكون معنى الطعم راجعاً إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب، وقد تقول العرب : تطعم تطعم أي ذق حتى تشتهي وإذا كان معنى الكلمة راجعاً إلى الذوق صلح للمأكول والمشروب معاً.
المسألة الثالثة : زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بيّن في الخمر أنها محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة، بيّن في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى، والاحسان إلى الخلق. قالوا : ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم، لأنه لو كان المراد ذلك لقال : ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ ﴾ (البقرة : ١٤٣) ولكنه لم يقل ذلك، بل قال :﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جُنَاحٌ﴾ إلى قوله ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ ولا شك أن إذا للمستقبل لا للماضي.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٦
واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة وقولهم : إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي.
قجوابه ما روى أبو بكر الأصم : أنه لما نزل تحريم الخمر، قال أبو بكر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرّم الخمر وهم يطعمونها، فأنزل الله هذه الآيات، وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص.
المسألة الرابعة : أنه تعالى شرط لنفي الجناح حصول التقوى والايمان مرتين وفي المرة الثالثة حصول التقوى والاحسان واختلفوا في تفسير هذه المراتب الثلاث على وجوه : الأول : عمل الاتقاء، والثاني : دوام الاتقاء والثبات عليه، والثالث : اتقاء ظلم العباد مع ضم الاحسان إليه.
القول الثاني : أن الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية، والثاني : اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية. الثالث : اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم، القول الثالث : اتقاء الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر، القول الرابع : ما ذكره القفال رحمه الله تعالى قال : التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى اللثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق.
والقول الخامس : أن المقصود من هذا التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الايمان والتقوى. فإن قيل : لم شرط رفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الايمان والتقوى مع أن المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتق ثم تناول شيئاً من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول، بل عليه جناح في ترك الإيمان وفي ترك التقوى، إلا أن ذلك لا تعلق له بتناول ذلك المباح فذكر هذا الشرط في هذا المعرض غير جائز.
قلنا : ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الايمان والتقوى والاحسان، ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح، وقد علمت أن ذلك الأمر مباح فتقول : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً تريد أن زيداً إن بقي مؤمناً محسناً فإنه غير مؤاخذ بما فعل.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٦
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ والمعنى أنه تعالى لما جعل الاحسان شرطاً في نفي الجناح بيَّن أن تأثير الإحسان ليس في نفي الجناح فقط، بل وفي أن يحبه الله، ولا شك أن هذه الدرجة أشرف الدرجات وأعلى المقامات، وقد تقدم تفسير محبة الله تعالى لعباده.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٦
٤٢٧
قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُه ا أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام، ووجه النظم أنه تعالى كما قال :﴿لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَـاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (المائدة : ٨٧) ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك، فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحلالات، وبين دخوله في المحرمات.
وههنا مسائل :