المسألة الخامسة : قال بعض مثبتي القياس : دلت الآية على أن العمل بالقياس والاجتهاد جائز لأنه تعالى فوّض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم وهذا ضعيف لأنه لا شك أن الشارع تعبدنا بالعمل بالظن في صور كثيرة. منها : الاجتهاد في القبلة، ومنها : العمل بشهادة الشاهدين ومنها : العمل بتقويم المقومين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، ومنها : العمل بتحكيم الحكام في تعيين مثل المصيد المقتول، كما في هذه الآية، ومنها : عمل العامي بالفتوى. ومنها : العمل بالظن في مصالح الدنيا. إلا أنا نقول : إن ادعيتم أن تشبيه صورة شرعية بصورة شرعية في الحكم الشرعي هو عين هذه المسائل التي عددناها فذلك باطل في بديهة العقل، وإن سلمتم المغايرة لم يلزم، من كون الظن حجة في تلك الصور، كونه حجة في مسألة القياس، إلا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس/ وهو باطل. وأيضاً فالفرق ظاهر بين البابين، لأن في جميع الصور المذكورة الحكم إنما ثبت في حق شخص واحد في زمان واحد في واقعة واحدة. وأما الحكم الثابت بالقياس فإنه شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والتنصيص على أحكام الأشخاص الجزئية متعذر. وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر. وأما التنصيص عى الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر، فظهر الفرق والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
ثم قال تعالى :﴿هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية وجهان : الأول : أن المعنى يحكمان به هدياً يساق إلى الكعبة فينحر هناك، وهذا يؤكد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة لأنه تعالى لم يقل يحكمان به شيئاً يشتري به هدي وإنما قال يحكمان به هدياً وهذا صريح في أنهما يحكمان بالهدي لا غير. الثاني : أن يكون المعنى يحكمان به شيئاً يشتري به ما يكون هدياً، وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ، والحق هو الأول. وقوله ﴿هَدْيَا ﴾ نصب على الحال من الكناية في قوله ﴿بِه ﴾ والتقدير يحكم بذلك المثل شاة أو بقرة أو بدنة فالضمير في قوله ﴿بِه ﴾ عائد إلى المثل والهدي حال منه، وعند التفظن لهذين الاعتبارين فمن الذي يرتاب في أو الواجب هو المثل من طريق الخلقة والله أعلم.
المسألة الثانية : قوله ﴿بَـالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ صفة لقوله ﴿هَدْيَا ﴾ لأن إضافته غير حقيقية، تقديره بالغا الكعبة لكن التنوين قد حذف استخفافاً ومثله ﴿عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ (الأحقاف : ٢٤).
المسألة الثالثة : سميت الكعبة كعبة لارتفاعها وتربعها، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة والكعبة إنما أريد بها كل الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في الكعبة ولا عندها ملازقاً لها ونظير هذه الآية قوله ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج : ٣٣).
المسألة الرابعة : معنى بلوغه الكعبة، أن يذبح بالحرم فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حياً لم يجز بل يجب عليه ذبحه في الحرم، وإذا ذبحه في الحرم. قال الشافعي رحمه الله : يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضاً. وقال أبو حنيفة رحمه الله : له أن يتصدق به حيث شاء، وسلم الشافعي أن له أن يصوم حيث شاء، لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم.
حجة الشافعي : أن نفس الذبح إيلام، فلا يجوز أن يكون قربة، بل القربة هي إيصال اللحم إلى الفقراء، فقوله :﴿هَدْيَا بَـالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ يوجب إيصال تلك الهدية إلى أهل الحرم والكعبة.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله : أنها لما وصلت إلى الكعبة فقد صارت هدياً بالغ الكعبة، فوجب أن يخرج عن العهدة.
ثم قال تعالى :﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَالِكَ صِيَامًا﴾ وفيه مسائل :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٢٩
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ﴾ على إضافة الكفارة إلى الطعام، والباقون ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ بالرفع والتنوين طعام بالرفع من غير التنوين، أما وجه القراءة الأولى : فهي أنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء : الهدي، والصيام، والطعام، حسنت الإضافة، فكأنه قيل كفارة طعام لا كفارة هدي، ولا كفارة صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء، وأما وجه قراءة من قرأ ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ بالتنوين، فهو أنه عطف على قوله ﴿فَجَزَآءٌ﴾ و﴿طَعَامُ مَسَـاكِينَ﴾ عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة ولم تضف الكفارة إلى الطعام، لأن الكفارة ليست للطعام، وإنما الكفارة لقتل الصيد.
المسألة الثانية : قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله : كلمة ﴿أَوْ﴾ في هذه الآية للتخيير، وقال أحمد وزفر : إنها للترتيب.
حجة الأولين أن كلمة (أو) في أصل اللغة للتخيير، والقول بأنها للترتيب ترك للظاهر.


الصفحة التالية
Icon