المسألة الثالثة : اتفق المسلمون على أن المحرم عليه الصيد، واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم فيه أربعة أقوال : الأول : وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس، وذكره الثوري وإسحاق أنه يحرم عليه بكل حال، وعولوا فيه على قوله ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾ وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال، وكل ذلك صيد البر، وروى أبو داود في "سننه" عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبدالله بن الحرث عن أبيه قال : كان الحرث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاماً وصنع فيه الحجل واليعاقيل ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء فقالوا له كل فقال علي : أطعمونا قوتاً حلالاً فإنا حرم، ثم قال علي عليه السلام أنشد الله من كان ههنا من أجع أتعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله فقالوا نعم.
والقول الثاني : أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له، وهو قول الشافعي رحمه الله، والحجة فيه ما روى أبو داود في "سننه" عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم".
والقول الثالث : أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلّم عنه فقال :"هل أشرتم هل أعنتم فقالوا لا. فقال : هل بقي من لحمه شيء أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والاعانة من غير تفصيل.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٣٧
واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، والثاني في غاية الضعف.
ثم قال تعالى :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظباً على الطاعة محترزاً عن المعصية.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٣٧
٤٣٩
قوله تعالى :﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَـامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَـا اـاِدَ ﴾.
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى حرّم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر ﴿قَيِّمًا﴾ بغير ألف، ومعناه المبالغة في كونه قائماً بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى :﴿دِينًا قِيَمًا﴾ (الأنعام : ١٦١) والباقون بالألف، وقد استقصينا ذلك في سورة النساء.
المسألة الثانية :﴿جَعَلَ﴾ فيه قولان : الأول : أنه بين وحكم، الثاني : أنه صير، فالأول بالأمر والتعريف، والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه.
المسألة الثالثة : سميت الكعبة كعبة لارتفاعها، يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج كاعب وكعاب، وكعب الإنسان يسمى كعباً لنتوه من الساق، فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم، ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره فلان علا كعبه.
المسألة الرابعة : قوله ﴿قِيَـامًا لِّلنَّاسِ﴾ أصله قوام لأنه من قام يقوم، وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح، ثم ذكروا ههنا في كون الكعبة سبباً لقوام مصالح الناس وجوهاً : الأول : أن أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة، فإن مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع، وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إلي، فالله تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها، فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات، فصار ذلك سبباً لاسباغ النعم على أهل مكة. الثاني : أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم، فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له، ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولهذا قال تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ (العنكبوت : ٦٧) الثالث : أن أهل مكة صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم. الرابع : أنه تعالى جعل الكعبة قواماً للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة، وجعل تلك المناسك سبباً لحط الخطيآت، ورفع الدرجات وكثرة الكرامات.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٣٩