اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة : ٩٨) ثم أتبعه بالتكليف بقوله ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ ﴾ (المائدة : ٩٩) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ (المائدة : ٩٩) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال :﴿قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان : أحدهما : الذي يكون جسمانياً، وهو ظاهر لكل أحد، والثاني : الذي يكون روحانياً، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى، وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذراً عند أرباب الطباع السليمة، فكذلك الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان، بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد، لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل، ومنفعته طيبة مختصرة، وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية، وطيب الطيب الروحاني فمنفتعه عظيمة دائمة أبدية، وهو القرب من جوار رب العالمين، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين، والمرافقة من النبيّين والصدّيقين والشهداء الصالحين، فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية.
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ يعني أن الذي يكون خبيثاً في عالم الرحانيات، قد يكون طيباً في عالم الجسمانيات، ويكون كثير المقدار، وعظيم اللذة، إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناوله وقرب وجدانه، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية، التي إليها الإشارة بقوله ﴿وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ﴾ (الكهف : ٤٦) وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته، يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربانية.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٢
ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة، والتحذيرات من المعصية، أتبعها بوجه آخر يؤكدها، فقال تعالى :﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَـا أُوْلِى الالْبَـابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجلية، والتعريفات القوية، ولا تقدموا على مخالفته لعلّكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٢
٤٤٢
قوله تعالى :﴿تُفْلِحُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْـاـاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : الأول : أنه تعالى لما قال :﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ ﴾ (المائدة : ٩٩) صار التقدير كأنه قال، ما بلغه الرسول إليكم فخذوه، وكونوا منقادين له، وما لم يبلغه الرسول إليك فلا تسألوا عنه، ولا تخوضوا فيه، فإنكم أن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم. الثاني : أنه تعالى لما قال :﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ ﴾ وهذا ادعاء منه للرسالة، ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكياً عنهم ﴿وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا﴾ (الإسرار : ٩٠) إلى قوله ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا﴾ (الإسرار : ٩٣) والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام اليكم، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات، فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا، ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلّم بهذه المعجزات، وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم.
الوجه الثالث : أن هذا متصل بقوله :﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ (المائدة : ٩٩) فاتركوا الأمور على ظواهرنا ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم.