قلنا الجواب من وجهين : الأول : أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله، وصفة من صفاته، وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه، يقال : سألته درهماً أي طلبت منه الدرهم ويقال : سألته عن الدرهم أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته، فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة، وإنزال المائدة من السماء، فهم سألوا نفس الشيء، وأما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم فهم ما سألوا ذلك، وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها، فلما اختلف السؤالان في النوع، اختلفت العبارة أيضاً إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد، وهو أنه خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه، وفيه خطر المفسدة، والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه، فبيّن تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولاً وخوضاً فيما لا فائدة فيه.
الوجه الثاني : في الجواب أن الهاء في قوله ﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾ غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها، بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء، والتقدير : قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم، فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٥
٤٤٦
قوله تعالى :﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنا بَحِيرَةٍ وَلا سَآاـاِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ﴾ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها، ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها، بيّن تعالى أن ذلك باطل فقال :﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنا بَحِيرَةٍ وَلا سَآاـاِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ﴾.
المسألة الثانية : أعلم أنه يقال : فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل، وبعضها أعم من بعض، وأكثرها عموماً فعل، لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب، أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر، وأما إنه واقع على أعمال القلوب، فدليل عليه قوله تعالى :﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِه مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلا ءَابَآؤُنَا﴾ إلى قوله ﴿كَذَالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ (النحل : ٣٥) وأما عمل فإنه أخص من فعل، لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح، ولا يقع على الهم والعزم والقصد، والدليل عليه قوله عليه السلام :"نية المؤمن خير من عمله" جعل النية خيراً من العمل، فلو كانت النية عملاً، لزم كون النية خيراً من نفسها، وأما جعل فله وجوه : أحدها : الحكم ومنه قوله ﴿وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا ﴾ (الزخرف : ١٩) وثانيها : الخلق، ومنه قوله :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ (الانعام : ١). وثالثها : بمعنى التصيير ومه قوله ﴿إِنَّا جَعَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا﴾ (الزخرف : ٣).
إذا عرفت هذا فنقول : قوله ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ﴾ أي ما حكم الله بذلك ولا شرع ولا أمر به.
المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أشياء : أولها : البحيرة : وهي فعلية من البحر وهو الشق، يقال : بحر ناقته إذا شق أذنها، وهي بمعنى المفعول، قال أبو عبيدة والزجاج : الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسبوها لآلهتهم، ولا يجز لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، ولا تطرد من ماء، ولا تمنع عن مرعى، ولا ينتفع بها وإذا لقيها المعبي لم يركبها تحريجاً.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٤٦
وأما السائبة : فهي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال : ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التيتركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، وهي المسيبة كعيشة راضية بمعنى مرضية، وذكروا فيها وجوهاً : أحدها : ما ذكره أبو عبيدة، وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها، وثانيها : قال الفراء : إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث، سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف، وثالثها : قال ابن عباس : السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء، فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل، ورابعها : السائبة هو العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.


الصفحة التالية
Icon