والجواب : أن قوله ﴿كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ﴾ أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء.
إذا عرفت هذا فنقول : الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر. وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٥٨
المسألة الثالثة : أنه تعالى اعتبر الأذن في خلق الطين كهيئة الطير، وفي صيرورته ذلك الشيء طيراً. وإنما أعاد قوله ﴿بِإِذْنِى﴾ تأكيداً لكون ذلك واقعاً بقدرة الله تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى وإيجاده.
وخامسها : قوله تعالى :﴿وَتُبْرِئُ الاكْمَهَ وَالابْرَصَ بِإِذْنِى ﴾ وإبراء الأكمه والأبرص معروف وقال الخليلي الأكه من ولد أعمى والأعمى من ولد بصيرا ثم عمي.
وسادسها : قوله تعالى :﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى ﴾ أي وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء باذني أي بفعلي ذلك عند دعائك، وعند قولك للميت أخرج بإذن الله من قبرك، وذكر الإذن في هذه الأفاعيل إنما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله تعالى كقوله ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (آل عمران : ١٤٥) أي إلا بخلق الله الموت فيها.
وسابعها : قوله تعالى :﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسرائيل عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَـاتِ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله ﴿إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَـاتِ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه هذه البينات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالألف وللام للعهد. ويحتمل أن يكون المراد منه جنس البينات.
المسألة الثانية : روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء.
ثم قال تعالى :﴿فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي ﴿سِحْرٌ﴾ بالألف وكذلك في يونس وهود والصف، وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس بالألف فقط والباقون ﴿سِحْرٌ﴾ فمن قرأ ﴿سِحْرٌ﴾ أشار إلى الرجل ومن قرأ ﴿سِحْرٌ﴾ أشار به إلى ما جاء به. وكلاهما حسن لأن كل واحد منهما قد تقدم ذكره. قال الواحدي رحمه الله : والاختيار ﴿سِحْرٌ﴾ لجواز وعوعه على الحدث والشخص، أما وقوعه على الحدث فظاهر وأما وقوعه على الشخص، فتقول : هذا سحر وتريد به ذو سحر كما قال تعالى :﴿وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ﴾ (البقرة : ١٧٧) أي ذا البر قال الشاعر :
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٥٨
فإنما هي إقبال وإدبار
المسألة الثانية : فإن قيل : إنه تعالى شرع ههنا في تعديد نعمه على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه ﴿إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ليس من النعم، فكيف ذكره ههنا ؟
والجواب : أن من الأمثال المشهورة ـ أن كل ذي نعمة محسود ـ وطعن الكفار في عيسى عليه السلام بهذا الكلام، يدل على أن نعم الله في حقه كانت عظيمة فحسن ذكره عند تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٥٨
٤٦١
وثامنها : قوله تعالى :﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّـانَ أَنْ ءَامِنُوا بِى وَبِرَسُولِى﴾ وقد تقدم تفسير الوحي. فمن قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء. ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء قال المراد بذلك الوحي الإلهام والالقاء في القلب كما في قوله تعالى :﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّ مُوسَى ا أَنْ أَرْضِعِيه ﴾ (القصص : ٧) وقوله ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ (النحل : ٦٨) وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان. وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم، آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام، لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الإنقياد والخضوع في الظاهر، يعني رمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.
فإن قيل : إنه تعالى قال في أول الآية ﴿اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ﴾ (المائدة : ١١٠) ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه بشيء منها تعلق.


الصفحة التالية
Icon