المسألة الثانية : في لفظ ﴿الظُّلُمَـاتُ وَالنُّورُ ﴾ قولان : الأول : أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما. وأيضاً هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض، فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان والثاني : نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ ﴾ أي ظلمة الشرلاك والنفاق والكفر والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين. ونقل عن الحسن أنه قال : يعني الكفر والإيمان، ولا تفاوت بين هذين القولين، فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس. ولقائل أن يقول حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته، ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقروناً بالسموات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه. قال الواحدي : والأولى حمل اللفظ عليهما معاً. وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ على مجازه، واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معاً.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٧١
المسألة الثالثة : إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور، وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور، والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج، وجلس إنسان آخر بالبعد منه، فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً، وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ويرى ذلك الهواء مظلماً، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية.
وإذ ثبت هذا فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها، فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور، فوجب تقديمها في اللفظ، ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره.
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع، والنور بصيغة الواحد ؟
فنقول : أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان/ فكلامه ههنا ظاهر، لأن الحق واحد والباطل كثير، وأما من حملها على الكيفية المحسوسة، فالجواب : أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل التناقص قليلاً قليلاً، وتلك المراتب كثيرة. فلهذا السبب عبّر عن الظلمات بصيغة الجمع.
أما قوله تعالى :﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ فأعلم أن العدل هو التسوية. يقول : عدل الشيء بالشيء إذا سواه به، ومعنى ﴿يَعْدِلُونَ﴾ يشركون به غيره.
فإن قيل : على أي شيء عطف قوله ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ قلنا : يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على معنى أن الله حقيق بالحمد على كل ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ فيكفرون بنعمته، ويحتمل أن يكون معطوفاف على قوله ﴿خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾ على معنى أن خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إنهم يعدلون به جماداً لا يقدر على شيء أصلاً.
فإن قيل : فما معنى ثم ؟
قلنا : الفائدة فيه استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٧١
٤٧٩
اعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع تعالى، ويحتمل أن لا يكون المراد منه ذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر.
أما الوجه الأول : فتقريره : أن الله تعالى لما استدل بخلقه السموات والأرض وتعاقب الظلمات والنور على وجود الصانع الحكيم أتبعه بالاتسدلال بخلقه الإنسان، على إثبات هذا المطلوب فقال :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ﴾ والمشهور أن المراد منه أنه تعالى خلقهم من آدم وآدم كان مخلوقاً من طين. فهلذا السبب قال :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ﴾ وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، وهما يتوالدان من الدم، والدم إنما يتولد من الأغذية، والأغذية إما يحوانية وإمانباتية، فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان، فبقي أن تكون نباتية، فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين. وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب.
إذا عرفت هذا فنقول : هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور، ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها، وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب.


الصفحة التالية
Icon