﴿وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ﴾ (الزخرف : ٨٤) وقال ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ (البقرة : ١١٥) وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة صلى الله عليه وسلّم تعالى، فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه : الأول : أن قوله ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِ ﴾ يعني وهو الله في تدبير السموات والارض كما يقال : فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته، ونظيره قوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ﴾ والثاني : أن قوله ﴿وَهُوَ اللَّهُ﴾ كلام تام، ثم ابتدأ وقال :﴿فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِا يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سرائر الملائكة، وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن. والثالث : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير : وهو الله يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم، ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا : وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم، وكلمة هو إنما تذكر ههنا لإفادة الحصر، وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسماً مشتقاً فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه، وإذا جعلنا قولنا : الله لفظاً مفيداً صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض، وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم.
المسألة الثانية : المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف، والمراد بالجهر أعمال الجوارح، وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي، فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، والعلة متقدمة على المعلول، والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ.
المسألة الثالثة : قوله ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ فيه سؤال : وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر، وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر. فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ يقتضي عطف الشيء على نفسه، وأنه فاسد.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨١
والجواب : يجب حمل قوله ﴿مَا تَكْسِبُونَ﴾ على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال : هذا المال كسب فلان أي مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال.
المسألة الرابعة : الآية تدل عى كون الإنسان مكتسباً للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر/ ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزهاً عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨١
٤٨٣
اعلم أنه تعالى لما تكلم، أولاً : في التوحيد، وثانياً : في المعاد، وثالثاً : فيما يقرر هذين المطلوبين ذكر بعده ما يتعلق بتقرير النبوة وبدأ فيه بأن بين كون هؤلاء الكفار معرضين عن تأمل الدلائل، غير ملتفتين إليها وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل. والتأمل في الدلائل واجب. ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن الدلائل. قال الواحدي رحمه الله : من في قوله ﴿مِّنْ ءَايَةٍ﴾ لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي كقولك ما أتاني من أحد والثانية وهي قوله ﴿مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ﴾ للتبعيض والمعنى وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٨٣
٤٨٣
أعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب، فالمرتبة الأولى : كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات، والمرتبة الثانية : كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به، بل يكون غافلاً عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذباً به فقد زاد على الأعراض، والمرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الانكار، فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب. واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات : قال ابن مسعود : انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة، وقيل إنه القرآن، وقيل : إنه محمد صلى الله عليه وسلّم وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلّم والأحكام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلّم وقيل إنه الوعد والوعيد، الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى، والأولى دخول الكل فيه.


الصفحة التالية
Icon