المسألة الثالثة : دلّت الآية على أن الطاعة لا توجب الثواب، والمعصية لا توجب العقاب لأنه تعالى قال :﴿مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَـاـاِذٍ فَقَدْ رَحِمَه ﴾ أي كل من صرف الله عنه العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه. وهذا إنما يحسن لو كان ذلك الصرف واقعاً على سبيل التفضل أما لو كان واجباً مستحقاً لم يحسن أن يقال فيه إنه رحمه ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب العبد، فإذا لم يضربه لا يقال إنه رحمه. أما إذا حسن منه أن يضربه ولم يضربه فإنه يقال إنه رحمه، فهذه الآية تدل على أن كل عقاب انصرف وكل ثواب حصل، فهو ابتداء فضل وإحسان من الله تعالى وهو موافق لما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" ووضع يده فوق رأسه، وطول بها صوته.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٩٠
المسألة الرابعة : قال القاضي : الآية تدل على أن من لم يعاقب في الآخرة ممن يصرف عنه العقاب، فلا بد من أن يثاب وذلك يبطل قول من يقول : إن فيمن يصرف عنه العقاب من المكلفين من لا يثاب، لكنه يتفضل عليه.
فإن قيل : أليس من لم يعاقبه الله تعالى ويتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين وذلك يبطل دلالة الآية على قولكم ؟
قلنا : هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه : الأول : أن التفضل يكون كالابتداء من قبل الله تعالى، وليس يكون ذلك مطلوباً من الفعل والفوز هو الظفر بالمطلوب، فلا بدّ وأن يفيد أمراً مطلوباً. والثاني : أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضي مبالغة في عظم النعمة، وذلك لا يكون إلا ثواباً. والثالث : أن الآية معطوفة على قوله ﴿إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الأنعام : ١٥) والمقابل للعذاب هو الثواب، فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جداً وضعفه ظاهر فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٩٠
٤٩٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله ولياً، وتقريره أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها. والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما. والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل. وإذا ثبت هذا الحصر فقد بيّن الله تعالى أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله، والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله. والدليل على أن الأمر كذلك، أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكناً لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به، وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به، فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه.
فإن قيل : قد نرى أن الإنسان بدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره، وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره، وذلك يقدح في عموم الآية. وأيضاً فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة الله تعالى. ورأس الخيرات هو الإيمان، فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد الله تعالى، ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقاباً ولا يفعل الإيمان ثواباً. وأيضاً فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم، وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية.
والجواب عن الأول : أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى. وعلى هذا التقدير فيكون الكل من الله تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات.
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير، إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجيهين : الأول : أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير، وذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بدّ وأن يحصل عقبيها الخير والسلامة. والثاني : أنه قال في إمساس الضر ﴿فَلا كَاشِفَ لَه ا إِلا هُوَ ﴾ وذكر في إمساس الخير ﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فذكر في الخير كونه قادراً على جميع الأشياء وذلك يدل على أن إرادة الله تعالى لايصال الخيرات غالبة على إرادته لايصال المضار. وهذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة الله تعالى جانب الرحمة غالب، كما قال :(سبقت رحمتي غضبي).
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٩٤
٤٩٥
فيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon