فإن قيل : ما ذكرتموه على الضد من قولكم إن قوله ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ﴾ دل على كمال القدرة. فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار، فوجب حمله على فوقية المكان والجهة.
قلنا : ليس الأمر كما ذكرتم لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض وقوله ﴿فَوْقَ عِبَادِه ﴾ دل على أن ذلك القهر والقدرة عام في حق الكل. والسابع : وهو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية رداً على من يتخذ غير الله ولياً، والتقدير : كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده، ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير الله ولياً. وهذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات كان المراد من تلك الفوقية، الفوقية بالقدرة والقوة. أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلاً في جهة فوق أن يكون التويل عليه في كل الأمور مفيداً وأن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازماً. أما إذا حملنا ذلك على فوقية القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه، لا ما ذكره أهل التشبيه والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٩٥
٤٩٧
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله تعالى. ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول : يمكن أن يكون المراد حصول شهادة الله في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم، ويمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية الله تعالى.
أما الاحتمال الأول : فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله غيرك رسولاً وما نرى أحداً يصدقك وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بالنبوة، فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إليّ هذا القرآن وهذا القرآن معجز، لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزاً، كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقاً في دعواي. والحاصل : أنهم طلبوا شاهداً مقبول القول يشهد على نبوته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هو لله، ثم بيّن أنه شهد له بالنبوة وهو المراد من قوله ﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه شَهِيدُ ﴾ فهذا تقرير واضح.
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى.
فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة، وهي أنا نقول : المطالب على أقسام ثلاثة : منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع، وإلا لزم الدور. ومنها ما يمتنع إثباته بالعقل وهو كل شيء يصح وجوده ويصح عدمه عقلاً، فلا امتناع في أحد الطرفين أصلاً، فالقطع على أحد الطرفين يعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي، ومنها ما يمكن إثباته بالعقل والسمع معاً، وهو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به، فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
إذا عرفت هذا فنقول : قوله ﴿كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والاضداد والأنداد والأمثال والأشباه.
ثم قال :﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه شَهِيدُ ﴾ أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود.
المسألة الثانية : نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئاً.
واعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتاً موجوداً وحقيقة إلا أنه ينكر تسميته اعالى بكونه شيئاً، فيكون هذا خلافاً في مجرد العبارة. واحتج الجمهور على تسمية الله تعالى بالشيء بهذه الآية وتقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ وهذا يوجب كونه تعالى شيئاً، كما أنه لو قال : أي الناس أصدق، فلو قيل : جبريل، كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا ههنا.
فإن قيل : قوله ﴿قُلِ اللَّه شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن قوله ﴿اللَّهِ﴾ مبتدأ، وقوله ﴿شَهِيدُا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ خبره/ وهو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها.
قلنا الجواب في وجهين : الأول : أن نقول قوله ﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةً ﴾ لا شك أنه سؤال ولا بدّ له من جواب : إما مذكور، وإما محذوف.
فإن قلنا : الجواب محذوف فنقول : هذا على خلاف الدليل، وأيضاً فبتقدير أن يكون الجواب محذوفاً، إلا أن ذلك المحذوف لا بدّ وأن يكون أمراً يدل المذكور عليه ويكون لائقاً بذلك الموضع.


الصفحة التالية
Icon