المسألة الأولى : قال ابن عباس حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأُمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر وأبو جهل واستمعوا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم، فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال : لا أدري ما يقول لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل كلا فأنزل الله تعالى :﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾ والأكنة جمع كنان وهو ما وقى شيئاً وستره، مثل عنان وأعنة، والفعل منه كننت وأكننت. وأما قوله ﴿أَن يَفْقَهُوهُ﴾ فقال الزجاج : موضع ﴿ءَانٍ﴾ نصب على أنه مفعول له والمعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت (اللام) نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى (أن) وقوله ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قال ابن السكيت : الوقر الثقل في الأذن.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٤
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان، ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه، وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان، وذلك هو المطلوب. قالت المعتزلة : لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول، ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان، ولم يدعونا إلى فعل الإيمان ؟
الثاني : أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفاً للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى :﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ (البقرة : ٢٨٦) الثالث : أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى :﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ﴾ (فصلت : ٥) وقال في آية أخرى ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفُا بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ (البقرة : ٨٨) وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم فلي معرض الذم لهم امتنع أن يذكره ههنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلا لزم التناقض. والرابع : أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون. والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين. والسادس : أن قوله ﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءُوكَ يُجَـادِلُونَكَ﴾ يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل، وعند هذا قالوا لا بد من التأويل وهو من وجوه : الأول : قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلّم ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم/ وهو المراد من الأكنة، ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم، وهو المراد من قوله ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ والثاني : أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن، فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٠٤
وإذا ثبت هذا فنقول : لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع، مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان.
والتأويل الثالث : أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه، فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان، فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى.
والتأويل الرابع : أنه تعالى لما منعهم الالطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها، وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾.
والتأويل الخامس : أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ﴾ (فصلت : ٥).


الصفحة التالية
Icon